موقف “فتح” وتياراتها: الموقف من “الحرب على غزة” وتداعياته

موقف “فتح” وتياراتها: الموقف من “الحرب على غزة” وتداعياته

رام الله – الشاهد| كتب حمدي علي حسين.. تكمن الأهمية في موقف فتح وتياراتها من الحرب على غزة، أنه سينبني عليه سياسات تؤثر في مسار الحرب واليوم التالي لها وفي مسار القضية الفلسطينية، إذ هناك حاجة إلى التئام الصف الفلسطيني وتوحده على بعض المواقف الضرورية، مثل توحد الموقف على وقف الحرب واستدامته، وكيفية إدارة القطاع في أعقابها، وإعادة الإعمار وما إلى ذلك من قضايا متصلة. هذا فضلا عن القضايا الأخرى الأساسية، السابقة على الحرب والتي ستستمر بعدها وأبرزها توحيد البرنامج الوطني والنضالي.

والجدير بالذكر أن محاولات التوفيق بين فتح وحماس قد تعددت، ومن أبرزها اتفاق الجزائر (أكتوبر/تشرين الأول 2022)، واجتماع العلمين (يوليو/تموز 2023)، واجتماعات موسكو (فبراير/شباط 2024) وصولًا إلى الصين مؤخرًا في 23 يوليو/تموز 2024؛ حيث وقَّعت جميع الفصائل الفلسطينية اتفاقًا بخطوط عريضة يقضي بتأسيس “حكومة مصالحة فلسطينية لإدارة غزة بعد الحرب، وتركيز الجهود الحالية لمواجهة الحرب الإسرائيلية ووقف “حرب الإبادة””، وذلك دون اقتران هذا الاتفاق بخطوات تنفيذية وجدول زمني.

من الواضح أن الرهان على إتمام المصالحة الفلسطينية في هذا الوقت الضيق والصعب أمر ليس بالهين والسهل، إلا أن ما يجري في غزة من إبادة، انعكس -نسبيًّا- تعددًا في المواقف داخل حركة فتح وقواعدها من الحرب الإسرائيلية على غزة وما هو الموقف الواجب منها، وكان سبق ذلك أيضًا تباين في المواقف من عملية “طوفان الأقصى” ومن حركة حماس نفسها.

ترصد هذه الورقة موقف مكونات حركة فتح الرسمية وغير الرسمية من “طوفان الأقصى”، ومن الحرب الإسرائيلية على غزة، ومن حركة حماس ومستقبل العلاقة معها ومع غزة، وتحلل ما اتخذته من مواقف أو قامت به من إجراءات عقب الحرب بالنظر إلى التحولات التي مرت بها الحركة، والدور الذي تلعبه راهنًا أو يمكن أن تلعبه في المستقبل.

وستراجع الورقة أولًا موقف فتح من المقاومة المسلحة وما شهده من تحولات، لأنه المحدد الرئيس لموقف فتح من حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما شهدته هذه الحرب انعكس على مواقف شخصيات وشرائح في فتح.

الفجوة بين فتح والمقاومة المسلحة
حملت فترة ما بعد أوسلو في عهد الرئيس ياسر عرفات (1993-2004) تحولات في بنية حركة فتح ونهجها، لكنها لم تكن جذرية وعميقة بالمقارنة مع عهد عباس (2005- حتى اليوم)، لأن الحركة أبقت نهج الكفاح المسلَّح ضمن الخيارات المتاحة بالتزامن مع مسار أوسلو الذي تبنَّته قيادة الحركة.

أسهم عدم إسقاط الرئيس عرفات الخيار العسكري في الحفاظ على توازن حركة فتح ومخزونها الثوري؛ فقد شهدت فترة عرفات عسكرة لهبَّة النفق، عام 1996، بمشاركة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية، ومن ثم عسكرة الانتفاضة الثانية (2000-2004) بمشاركة أجهزة السلطة الفلسطينية، ومن ثم تأسيس كتائب شهداء الأقصى جناحًا عسكريًّا للحركة خاض مواجهة مع إسرائيل ونفذ عمليات ضدها(1). تعرَّض على إثرها عرفات لحصار عسكري إسرائيلي، وحصار دبلوماسي دولي نظرًا لمواقفه وسياساته في عسكرة الانتفاضة ومواجهة إسرائيل. ورغم عدم انعقاد أي مؤتمر عام للحركة في عهد عرفات بعد أوسلو، الا أن بعض التحولات على الحركة تمت بشكل تراكمي ودون قرار بإجراء تغييرات على نظام الحركة أو ميثاقها وتشمل:

تحولت فتح من حركة تحرر وطني إلى حزب حاكم(2)؛ حيث إن قائد الحركة هو نفسه قائد السلطة التي تبنَّت مشروعًا سياسيًّا قائمًا على الحلول السلمية والمفاوضات في إطار اتفاق مرحلي، وحملت شعار “السلام العادل والشامل”. وقد انخرطت قيادة الحركة في قيادة السلطة ومؤسساتها الأمنية والمدنية.
تغير مركز الشرعية في حركة فتح بعد أوسلو؛ فتحولت من شرعية “المقاومة” ومدى الالتزام بها إلى شرعية أوسلو ومدى الالتزام بمندرجاته، وقد أصبحت الانتخابات التشريعية والرئاسية بعد أوسلو هي التي تمنح الشرعيات(3).
تصدَّعت الحركة نسبيًّا نتيجة رفض جزء من قياداتها خيار أوسلو، ومن ثم قرارهم بعدم العودة إلى الداخل، ومنهم بعض قيادات اللجنة المركزية الذين أصبح لهم دور معارض من الخارج، أمثال فاروق القدومي وغيره. ما أبقى خيار المقاومة حاضرًا في ثقافة وأدبيات بيئة فتح وإن أعدمته تنظيميًّا.
ترهُّل هيئات الحركة بفعل عدم التجديد والانفصال عن الخارج، وعدم تجديد الأطر لفترة تجاوزت 15 عامًا؛ ما أدى إلى زيادة الاستقطاب غير المعلن في أركان الحركة، والذي برزت معالمه خلال مشاركة الحركة في انتخابات المجلس التشريعي، عام 2006، عندما ترشحت قيادات وكوادر عن الحركة مستقلين في مواجهة القائمة الرسمية. ما يؤكد أن ما انتهت إليه الحركة ليس نهائيًّا، وأنها قد تشهد تحولات أخرى باتجاهات عدة، قد يكون عودة شرائح منها للقبول بخيار المقاومة ولو بصيغ مختلفة.
رغم وضع أسس لمنظومة مؤسسات حكومية، إلا أن السلطة لم تصادر جميع صلاحيات تنظيم فتح ودوره الاجتماعي والمؤسسي في الداخل والخارج، وأبقت العمل التنظيمي قائمًا بمساحته رغم تعارضه أحيانًا مع دور السلطة ومؤسساتها؛ ما يشير إلى أن هامش حركة فتح في السلطة لا يزال قائمًا، فضلًا عن استمرار ثقافة الخط الثوري وتاريخه في الحركة.
لكن هذا الهامش لم يمنع من تعمق الفجوة بين حركة فتح نفسها من جهة، والمقاومة وفصائلها وبرامجها من جهة أخرى.

تولى محمود عباس قيادة الحركة، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2004، خلفًا لياسر عرفات، بانتخاب من اللجنة المركزية للحركة، ومن ثم انتُخب رئيسًا للحركة بالتزكية خلال المؤتمر السادس للحركة، عام 2009، وأعيد انتخابه في مؤتمر الحركة السابع، عام 2016، وشهدت حركة فتح في عهده تحولات أفضت إلى تعمق الفجوة بين تاريخ الحركة الثوري ومبادئها وبين توجهاته التي تتعارض كليًّا مع المقاومة. فقد تراجعت الحركة رسميًّا عن نهج الكفاح المسلح خلال مؤتمرها السادس، وتبنَّت المقاومة الشعبية السلمية خيارًا إستراتيجيًّا(4)، وأعلنت أن السلام هو الإستراتيجية الفلسطينية التي تتبنَّاها خلال مؤتمرها السابع(5).

وجاءت هذه التحولات في إطار مشروع السلطة الفلسطينية الهادف لتعزيز منظومة التنسيق الأمني ومع مساعي إحياء عملية السلام مع إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية (2000-2004)، وبعد أحداث الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس (2006-2007) التي حظر على إثرها الرئيس عباس حركة حماس في الضفة الغربية ولاحق أفرادها، وباتت المقاومة المسلحة ملاحَقة بقرار رسمي من السلطة الفلسطينية.

وسعى عباس تحت غطاء شرعية السلطة والمنظمة إلى دمج فتح في السلطة من خلال تغيير قياداتها في المجلس الثوري واللجنة المركزية، وأصبحت بعض التعيينات داخل الحركة تصدر بالمراسيم والقرارات بشكل يخالف النظام الداخلي، وأسهمت هذه السياسات في زيادة الاستقطاب والصراع على المناصب التنظيمية والقيادية ومنها الصراع على خلافته(6)، وأنتجت حالات انتهاك النظام الداخلي للحركة عدة أشكال من تضارب المصالح(7)، بفعل ازدواجية المناصب والأدوار(8). وفي ظل التأجيل المستمر للانتخابات الرئاسية تحولت شرعية حركة فتح نحو الرجل الواحد، واستبدلت بالانتخابات المغيَّبة شرعية القوة والنفوذ، وتلاشت الشرعية النضالية بشكل تام(9)، وتحولت قيادة فتح نحو الشيخوخة بسبب إعادة تدوير غالبية المناصب(10)؛ ما انعكس سلبًا على دورها على صعيد العلاقات الدولية والإقليمية كحركة لصالح السلطة الفلسطينية ومؤسساتها(11).

باتت فتح في ظل عباس تواجه عدة مآزق بفعل سياسات التذويب المستمرة للحركة داخل السلطة، أولها: فشل المشروع السياسي للسلطة بفعل انغلاق أفق المفاوضات مع إسرائيل. والثاني: منافسة حماس لها شعبيًّا في ظل استمرار تخلي الحركة عن نهج الكفاح المسلح. والثالث: الانشقاقات الداخلية في الحركة(12)، وتحولها إلى تيارات مستقلة عنها.

كما تواجه الحركة أزمات أخرى تضعها على المحك وتشمل: مأزق ارتباط الحركة بالدور الأمني المستمر للسلطة الفلسطينية، واستمرار التنسيق الأمني للأخيرة مع إسرائيل في ظل تصاعد استهداف إسرائيل للفلسطينيين، وإمعان الحكومة اليمينية المتطرفة في استهداف الشعب الفلسطيني في ظل إصرار قيادة الحركة على التمسك بنهجها القائم على المقاومة الشعبية السلمية. وهناك مأزق فشل التوصل إلى مصالحة وطنية باعتبارها مطلبًا جماهيريًّا في ظل استمرار الحرب على الشعب الفلسطيني، كما ترتبط أيضًا بمستقبل الحركة ودورها في غزة بعد الحرب. وأضف إلى ذلك مأزق ضعف استقلالية الحركة عن السلطة، فبعض قياداتها مرتبط بمنظومة السلطة الفلسطينية ومصالحها، مصالح اقتصادية أو مناصب رسمية تتمثل في العلاوات أو التعيينات أو الراتب التقاعدي وغيرها مقابل إثبات الولاء.

مواقف حركة فتح وتياراتها الرسمية وغير الرسمية
سجلت تيارات حركة فتح الرسمية وغير الرسمية مواقف متباينة من عملية “طوفان الأقصى” والحرب على غزة ارتبطت باتجاهات تشكلت داخل الحركة في العقدين الأخيرين، وترتبط جذور التباينات في موقف الاتجاهات الفتحاوية في هذا السياق بنظرتها إلى نهج المقاومة المسلحة والعلاقة مع حركة حماس، ونظرتها من جانب آخر لمسار السلام القائم على اتفاق أوسلو. ويبدو أن هناك اختلافًا في الموقف مما يجرى في غزة، داخل حركة فتح نفسها، ويمكن تقسيمها إلى مواقف رسمية صادرة عن قيادة الحركة وهياكلها، ومواقف غير رسمية صادرة عن تيارات داخلها، وتيارات منشقة عنها.

أولًا: موقف حركة فتح الرسمي: عبَّرت حركة فتح رسميًّا عن مواقفها إما بالبيانات الصادرة باسم الحركة أو مجلسها المركزي أو الثوري أو مفوضيتها الإعلامية أو من خلال مخرجات اجتماعاتها العامة، أو عبر التصريحات واللقاءات الإعلامية الفردية.

تمثلت غالبية المواقف الرسمية لرأي الحركة عبر تصريحات وبيانات صدرت عن الرئيس محمود عباس، أو من خلال مكتب الرئاسة الفلسطينية. وقد جاءت مرتبطة بمنصبه كرئيس للسلطة الفلسطينية، وتنطلق من رأيه السابق بمشروع المقاومة المسلحة، والعلاقة المتوترة مع حركة حماس قبل الحرب، وتشكِّل استمرارًا لنفس آرائه خلال الحروب السابقة، ومفادها أن هذه المواجهات “بلا نتائج على الأرض”، وأن خيار المقاومة “مكلف”، إلى جانب تحميل حماس مسؤولية إيقاف الحرب كونها اتخذت قرار البدء بها خارج الإجماع. جاءت هذه المواقف في سياق استمرار الصراع السياسي بين فتح وحركة حماس، وفشل قيادة الحركتين في التوصل إلى اتفاق مصالحة بينهما خلال جولات تفاوض مختلفة عقدت في عواصم عربية وأجنبية، التزمت فيه فتح بموقف السلطة، ضرورة توحيد السلاح داخل منظومة السلطة والقبول بذات النهج الذي يقوم على وقف المقاومة المسلحة، وهذا ما ترفضه حماس، ولم تتوافق الحركتان على أي صيغة تخص هذه النقطة وبقيت خلافية رغم توقيع اتفاقيات مصالحة، وفي اتفاق الصين الأخير بين الفصائل الفلسطينية، شكَّل الاتفاق إطارًا ذا خطوط عريضة للمصالحة دون التطرق للتفاصيل، أي إن الخلافات يمكن أن تنشأ على التفاصيل(13).

وقد صدرت عن عباس بداية الحرب عدة تصريحات طالبت بوقف الحرب على غزة، وإيقاف مخطط التهجير، والتأكيد على وحدة الضفة وغزة كأراضٍ تتبع السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو(14)، وأكد عباس في تصريحاته على دور منظمة التحرير الفلسطينية ككيان ومرجعية للشعب الفلسطيني، و”ليست الفصائل الفلسطينية”(15).

وكان موقف عباس في البداية بعد عملية طوفان الأقصى يحمل نوعًا من التحفظ، ولم يعلن عن إدانة رسمية للعملية، إنما أدان استهداف المدنيين من الجانبين(16). لكن لاحقًا حمَّل حماس مسؤولية “إعطاء إسرائيل ذرائع لمهاجمة قطاع غزة” بتنفيذها عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول(17).

أما حركة فتح نفسها، فأصدرت بيانات عامة موسومة باسمها، وأخرى صدرت إما عن لجنتها المركزية أو مجلسها الثوري. فقد أصدرت مفوضية الإعلام والثقافة والتعبئة الفكرية أكثر من 24 بيانًا، تناولت مواقف عامة وتعليقات على الأحداث بما يتلاءم مع رؤية الحركة(18). بالعموم، حملت بيانات الحركة آراء غير ثابتة ومتناقضة أحيانًا، وقد يظهر اختلاف بين اللجنة المركزية والمجلس الثوري أحيانًا، وعدم اتساق في المواقف داخل الحركة نظرًا لتعدد الجهات التي تُصدر هذه البيانات، وتنعكس الخلافات على النهج على هذه البيانات. ومن حيث المضمون، جاء فيها مزيج من التمسك بإرث الحركة وشعاراتها وفي ذات الوقت هناك التزام بمشروع السلطة الفلسطينية الذي تتبناه.

بالنسبة لعملية “طوفان الأقصى” تناقضت مواقف فتح منها، فوصفها المجلس الثوري بـ”المعركة البطولية” في بيان صدر عنه، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأكد حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه في إطار وحدته الوطنية، داعيًا أبناء الحركة والشعب إلى “تعميق التلاحم في هذه المعركة البطولية”(19). بينما وصفت فتح العملية في بيان منفصل، بأنها “مغامرة”، وأدان البيان حركة حماس وحمَّلها مسؤولية احتلال إسرائيل لقطاع غزة ونكبة الشعب الفلسطيني(20). وذات البيان لاقى رفضًا من أعضاء المجلس الثوري للحركة الذين وصفوه بالبيان “المثير للجدل”، وبأنه لم يصدر وفق الإجراء التنظيمي المتبع(21).

لم تسع حركة فتح إلى عقد اجتماعات عامة دورية لها لمناقشة الحدث والخروج بخطوات عملية، بل تركت مسؤولية ذلك للرئيس عباس، وكان أول اجتماع عام للحركة، في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي بعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع من عملية “طوفان الأقصى”. دعت فيه الحركة إلى النفير العام للدفاع عن النفس والأرض و”المشروع الوطني”، ودعت إلى عقد قمة عربية طارئة، وأن للشعب حقًّا في الدفاع عن نفسه وأن الاستيطان والحصار هو أصل المشكلة، مع الإصرار على وقف العدوان كضرورة قصوى، وحمَّل البيان المجتمع الدولي المسؤولية لأنه لم يفرض تطبيق قراراته رغم سعي الحركة الدؤوب للسلام(22). تناقض هذا البيان مع التوجه العام للسلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية في الضفة الغربية التي سعت إلى بسط الأمن في ساحة الضفة، ومنع تمدد المواجهات إليها والعمل المسلح.

حملت اللجنة المركزية لحركة فتح ذات التوجهات المرتبطة بمشروع السلطة الفلسطينية، ورغم أنها تعتبر أعلى هيئة لصنع القرار في الحركة، إلا أنها اجتمعت أربع مرات فقط منذ بدء الحرب على غزة. جاء اجتماعها الأول، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد شهر من الحرب، وأصدرت بيانًا حذَّرت فيه من التهجير، ودعت إلى وقف الحرب والذهاب إلى حل سياسي ينهي الاحتلال الإسرائيلي. وأكدت في البيان رفضها فصل الضفة الغربية عن غزة أو احتلال أي جزء من القطاع، وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ودعت إلى الوحدة ورص الصفوف وتجسيد الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات(23). وهي ذات التصريحات التي صدرت عن رئيس السلطة، محمود عباس، عقب عملية “طوفان الأقصى” قبل أن تتغير لاحقًا، أي قبل اجتماع اللجنة بأكثر من شهر. وصدرت ثلاثة بيانات عن اجتماعات أخرى لِلَّجنة بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 و8 و15 فبراير/شباط 2024، إضافة إلى بيان آخر صدر في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، دون اجتماع، وأكدت في جميع بياناتها واجتماعاتها على مواقف السلطة الفلسطينية ذاتها من غزة، وتركيزها على ذات الخطاب الذي يحمِّل المجتمع الدولي مسؤولياته، ووحدة الضفة وغزة، والاصطفاف خلف منظمة التحرير الفلسطينية(24).

أما بالنسبة للمجلس الثوري للحركة، وبصفته أعلى سلطة تنظيمية في الحركة، فقد اجتمع مرة واحدة فقط بعد أكثر من أربعة شهور على بدء الحرب، في شهر يناير/كانون الثاني عام 2024، وحضره الرئيس محمود عباس(25). أصدر الثوري أربعة بيانات منفصلة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، منها ما تناول انتهاكات الاحتلال بشكل عام وبحق الأسرى على وجه الخصوص، واستنكر الاعتداء على أسرى الحركة، ومنهم زكريا زبيدي، عضو المجلس الثوري، ومروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية للحركة(26).

ثانيًا: مواقف وتصريحات معارضة داخل حركة فتح
صدر عن قيادات في اللجنة المركزية والمجلس الثوري لحركة فتح تصريحات تخالف التوجه العام للحركة إزاء عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية، ومنها ما صدر عن مروان البرغوثي وعباس زكي وجمال حويل، وكانت تتنافى مع تصريحات عباس وتوجهاته. وبقيت هذه التصريحات هامشية وخافتة أمام التوجه الرسمي للحركة، المهيمَن عليه من قبل عباس والتيار المقرب من دوائر السلطة الفلسطينية، والذي يتحكم بالتعيينات والمناصب داخل الحركة، ويتحكم بمخصصات حركة فتح المالية وبمنظومة الرواتب والترقيات والمناصب داخل السلطة الفلسطينية.

والجدير بالذكر أن القيادي الأسير، مروان البرغوثي، وعضو لجنتها المركزية يحظى بشبه إجماع فتحاوي، ويتميز بقدرته على توحيد الأقطاب والتيارات نظرًا لتاريخه الثوري ودوره في الانتفاضة ومن ثم أسره، وهذا ما حوَّله إلى رمز يجمع إرث الحركة وحاضرها. تحمل خطابات البرغوثي نداءات موجَّهة للجماهير وأكثر تأييدًا لنهج المقاومة المسلحة وعملية “طوفان الأقصى”، وفيها دعوة شعبية للانتفاض ومواجهة إسرائيل(27)، لذلك تفرض عليه إسرائيل عزلًا انفراديًّا، وزادت إجراءاتها القمعية بحقه بعد الطوفان.

يحمل البرغوثي وتياره تصورات مختلفة ومبادرات للوحدة مع حماس على قاعدة استغلال المقاومة لتحقيق أهداف سياسية، وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية على قاعدة وحدة الشعب الفلسطيني في جميع مناطق وجوده، وتوحيد الصف الوطني الفلسطيني على قاعدة الديمقراطية والتعددية والشراكة الوطنية الكاملة، والسعي للتحرر وتفكيك النظام الاستعماري وهزيمته(28).

أما عباس زكي، عضو اللجنة المركزية للحركة، فقد أصدر نداء بصفته مفوضًا عامًّا للعلاقات العربية والصين الشعبية في الحركة، دعا فيه الجماهير العربية إلى الخروج بمسيرات تضامنية مع غزة(29). وعبَّر لاحقًا عن تأييده لعملية “طوفان الأقصى” واصفًا أداء المقاومة هناك بـ”البطولات”، قائلًا: “طالما “محمد ضيف” يمشي على رجليه نحن جميعًا بخير”، واصفًا نهج السلام بالوهم الذي أشغل فتح ببناء مؤسسات الدولة بدل التحضير للقتال، واعدًا بانخراط الفتحاويين في أي مواجهة قادمة إن أقدمت إسرائيل على ضم الضفة(30). ردت قيادة الحركة عليه ببيان أنها تصريحات شخصية لا تمثل قيادة الحركة ولا قيادة السلطة(31).

ومن الأصوات الفتحاوية الأخرى التي تختلف مع نهج عباس، عضو المجلس الثوري للحركة، جمال حويل. اعتقلته إسرائيل، نهاية يونيو/حزيران 2024، وهو من القيادات التي تحظى بإجماع فصائلي في مخيم جنين، وقد وصف طوفان الأقصى بأنها “انتصار فلسطيني إستراتيجي على إسرائيل”. اعترض حويل على موقف السلطة الفلسطينية لأنه لا يتناسب وحجم الحدث داعيًا إلى سحب الاعتراف بإسرائيل، وترميم الوحدة الوطنية، وتوحيد المشروع السياسي بما يلبي تطلعات الشعب الفلسطيني ويرتقي لحجم التضحيات، مؤكدًا أن حركة حماس جزء لا يمكن استئصاله أو إقصاؤه، ودعا أبناء فتح إلى الاشتباك مع إسرائيل بكافة الوسائل بما فيها الكفاح المسلح(32).

ثالثًا: موقف تيارات منشقة عن الحركة
سُجِّل في حركة فتح انشقاقان لتيارين بفعل الخلافات مع عباس، أحدهما لمحمد دحلان، عضو اللجنة المركزية سابقًا، وناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية سابقًا أيضًا.

فُصِل دحلان من الحركة بقرار صدر عام 2011، وتلاه فصل قيادات مقربة منه، فأسَّس على إثر ذلك “التيار الإصلاحي” في الحركة، بزعامته وعضوية بعض التابعين له مثل سمير المشهراوي وديمتري دلياني وغيرهم. وفي انتخابات المجلس التشريعي، التي كانت مقررة عام 2021 وأُجِّلت بقرار من عباس، ترشح دحلان بقائمة منفصلة تمثل هذا التيار.

أما ناصر القدوة، فقد أسس، عام 2021، “الملتقى الفلسطيني الديمقراطي” كتيار منشق عن الحركة على إثر خلافات مع عباس. عاقبه الأخير بالفصل من الحركة، ومن إدارة مؤسسة ياسر عرفات التي كان يديرها، وبسحب جوازه الدبلوماسي منه، بعد إصرار القدوة على الترشح في انتخابات عام 2021، في قائمة منفصلة عن الحركة، قائمة “الحرية” التي تحالف فيها مع تيار مروان البرغوثي، وقد ضمت قيادات مثل أحمد غنيم وجمال حويل والمحرر فخري البرغوثي وغيرهم(33). وتلا هذا القرار فصل لعدد من كوادر الحركة المقربين من القدوة.

يلتقي هذان التياران المعارضان على مبدأ ضرورة تنحي محمود عباس، ولطالما اختلف قائداه مع عباس حتى قبل صدور قرارات فصلهما من الحركة. وهذان التيارات لا يختلفان مع عباس على مشروع أوسلو وقد عملا في إطاره سابقًا، ولا على المسار السلمي المتعلق بحل الدولتين ونهج عباس تجاهه بما فيه عدم تبني المقاومة المسلحة نهجًا، بل كان أساس المشكلة بالاختلاف مع عباس على صلاحيات ومناصب ضمن صراع على قيادة السلطة. ورغم تقارب ظروف انشقاق التيارين، إلا أن هناك اختلافًا في وجهات النظر تجاه طوفان الأقصى بينهما؛ حيث رفض دحلان إدانة العملية محمِّلًا إسرائيل المسؤولية، بينما صرَّح القدوة لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، خلال لقاء في فبراير/شباط 2024، بأنه لا ينوي الدفاع عن “الإخوان المسلمين” نظرًا لاختلافه معهم(34)، بل طرح نفسه عاملًا لإضعاف حماس بعد الحرب عبر حكومة جديدة دون مشاركة الحركة. ويتفق التياران فيما يتعلق بمستقبل قطاع غزة، على ضرورة تشكيل حكومة فلسطينية جديدة في غزة مفصولة عن حماس والسلطة الفلسطينية، وأن تتولى قوة حفظ سلام عربية إدارة القطاع في المرحلة الانتقالية.

اتجه محمد دحلان بعد ظهور تياره، من مقر إقامته في الخارج في دولة الإمارات، إلى إعادة ترميم العلاقة مع حركة حماس باعتبارها مدخلًا لتسهيل عمله الحزبي في غزة وتأسيس قاعدة حزبية هناك مستفيدًا من الخلافات بين حماس وعباس، لاسيما أن الأخير حظر تيار دحلان في الضفة الغربية ولاحق واعتقل كوادره. عزز دحلان من نشاطات تياره المجتمعية والأهلية، منها إغاثية وإنسانية، ومنها مصالحة عشائرية، عام 2017، على أساس دفع تعويضات مالية لعائلات ضحايا الاقتتال الفلسطيني في عام 2007، ومساعدة الشبان على الزواج ودفع معونات للمرضى وإدخال عشرات آلاف من جرعات لقاح كورونا، وشارك افتراضيًّا في جلسة للمجلس التشريعي عُقدت في غزة عام 2017، وخرج أنصاره مع أنصار حماس في عدة مناسبات في غزة مطالبين برحيل عباس(35). أسهمت نشاطات التيار بتوسع قاعدته وازدياد شعبيته داخل قطاع غزة الذي تحوَّل إلى نقطة ارتكاز لعمله.

صرَّح دحلان عقب عملية طوفان الأقصى بأنها انعكاس طبيعي لانسداد الآفاق أمام الشعب الفلسطيني في فلسطين وغزة، وبأنها نتيجة لاحتكام إسرائيل إلى التطرف والعنف الناتج عن الوزيرين، “بن غفير” و”سموتريتش”، داعيًا العالم إلى حشد الجهود لردع إسرائيل عن ارتكاب مجازر في القطاع(36). فيما أبدى سمير المشهراوي، نائب دحلان في التيار، اعتداده بشكل صريح بعملية “طوفان الأقصى” وقال: إنها “عملية بطولية”(37). وصدر عن دحلان، خلال لقاءاته اللاحقة مع فضائيات وصحف، رؤية بشأن مستقبل قطاع غزة، تقوم على تسليم إسرائيل وحماس الحكم في غزة لزعيم فلسطيني جديد ومستقل، يكون قادرًا على إعادة بناء غزة تحت حماية قوات حفظ سلام عربية(38). والتقى دحلان بهنية في العاصمة القطرية، الدوحة، في فبراير/شباط 2024، دون الإفصاح عن تفاصيل اللقاء(39). والجدير بالذكر أن دحلان نفى، في نهاية يوليو/تموز 2024، ما أُشيع حول نوايا تسليمه دورًا أمنيًّا في غزة بعد انسحاب إسرائيل من القطاع، بموافقة إسرائيل وحماس ودول عربية وبموافقة دولية، وأكد دعمه لأي خيار ضمن تفاهمات فلسطينية تقود إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، عبر عملية ديمقراطية شفافة(40).

كما عبَّر التيار الإصلاحي الذي يقوده في بيان منفصل عن معارضته لخطوة عباس بتشكيل حكومة تكنوقراط، واعتبره التفافًا على المطالب الشعبية والفصائلية والوطنية الداعية إلى إصلاح المؤسسات الوطنية الحكومية والتمثيلية، وتشكيل حكومة خارج إطار سيطرة عباس، ودعا إلى بناء جبهة داخلية عريضة على أساس تفاهمات وطنية لتشكيل حكومة مؤقتة ومستقلة وتخصصية لوقف الحرب أولًا، ومن ثم إعادة بناء غزة، والإعداد لانتخابات شاملة بجدول زمني ملزم ومحاربة الفساد(41).

أما “الملتقى الفلسطيني الديمقراطي” الذي يقوده ناصر، فيرى أنه يجب البحث عن حلول توافقية جديدة بتأسيس حكومة مؤقتة، ومغادرة عباس منصب الرئاسة، شرطًا لتحقيق هذا التوافق الوطني بسبب إصراره على برنامجه، ويكون التفاهم مع حركة حماس عبر دمجها في نظام سياسي وطني(42). وكان القدوة برفقة سمير المشهراوي قد التقيا برئيس المكتب السياسي لحماس، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023، لبحث تطورات الحرب على غزة وترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، وعبَّر الجميع عن اعتزازهم بالمقاومة الفلسطينية وصمود الشعب في غزة(43). وفي تصريحات لاحقة، قال القدوة: إن حماس ستخرج من الحرب “ضعيفة” مما يجعل قدرتها على إدارة قطاع غزة صعبة، وأبدى تأييده لعقد صفقة ووقف إطلاق النار، وتشكيل هيئة حكومية تكون مرتبطة بالسلطة الفلسطينية، ولكن تختلف عنها في الكفاءة وتخلو من الفساد. تضمَّن مقترح القدوة ضرورة إيجاد قوة أمنية عربية لفترة مؤقتة في غزة، بعد أن تنسحب إسرائيل بشكل كامل من قطاع غزة، ويكون هذا الحل جزءًا من مسار حل الدولتين(44).

سيناريوهات مستقبلية
تبرز عدة سيناريوهات حول دور فتح أو بعض تياراتها في إدارة أو تقرير كيفية إدارة قطاع غزة، في ظل تعدد المواقف والتصريحات داخل حركة فتح أو بعض التيارات المنبثقة عنها من جانب، وانعكاس هذه المواقف وتأثيرها على دور الحركة المستقبلي في قطاع غزة بعد الحرب من جانب آخر، أهمها:

السيناريو الأول: مشاركة رسمية لحركة فتح في حكم قطاع غزة بشكل كلي أو جزئي

والمقصود بهذه المشاركة إما بعودة السلطة التي ترتبط بها الحركة تدريجيًّا جزئيًّا أو كليًّا بناء على اتفاق فصائلي مع حماس على ترتيبات ما بعد الحرب أو من خلال عدم انتظار انتهاء الحرب وعودة السلطة جزئيًّا من مدخل تسلُّمها أدوارًا أمنية على المعابر ومنها معبر رفح، وذلك بحكم سيطرة إسرائيل على هذه المعابر، وطلب مصر من إسرائيل الانسحاب وتسليم معبر رفح لأجهزة أمنية تتبع للسلطة الفلسطينية كشرط لإعادة تشغيله، ورفضها فتح المعبر في ظل إدارة إسرائيلية(45).

يمكن أن يتحقق هذا السيناريو بوجهين: الأول: بتحقق الظروف المؤدية إليه، منها قدرة الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها حماس وفتح، على التوصل لاتفاق مصالحة يرتبط بخطوات عملية ومرحلية، وعلى قبول حركة حماس بشروط السلطة للعودة، لاسيما أن حماس ترفض المساس بسلاح “المقاومة”. الثاني: وذلك بالعودة خارج التوافق مع حماس؛ فتقبل السلطة الفلسطينية وأقطاب حركة فتح المقربة منها، لعب أدوار أمنية جزئية لتفرض وجودها في غزة. وهذا يتنافى مع شروط السلطة الفلسطينية المعلنة للعودة إلى غزة: ومنها الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع، ورفضها العودة خارج إرادة حماس لأن ذلك سيؤدي إلى الدخول في مواجهة واصطدام بفعل بقاء الحركة وقواعدها في غزة. هذا السيناريو يعتمد على نتيجة الحرب بين حماس وإسرائيل عسكريًّا وسياسيًّا، ومدى مرونة إسرائيل وقبولها بدور في غزة لفتح أو السلطة.

السيناريو الثاني: مشاركة بعض تيارات فتح بأدوار غير رسمية في إدارة غزة بعد الحرب في إطار توافق خارج إطار قيادة السلطة

وتشمل هذه المشاركة إما الوصول إلى توافق وطني بين جميع التيارات والاتجاهات الفتحاوية المعارضة لنهج عباس في حركة فتح والمنشقة عنها، وذلك بتوافقها مع حماس والفصائل الأخرى على قاعدة إيجاد قيادة بديلة أو إحياء منظمة التحرير الفلسطينية أو باتفاق تيارات فتح المنشقة عن الحركة (تياري دحلان والقدوة) مع حماس للمشاركة بأدوار داخل القطاع بعد الحرب كجزء من توافق كلي أو جزئي لمبادرات طرحتها هذه الجهات.

يتحقق هذا السيناريو في حال فشلت قيادة الفصائل في التوصل لاتفاق مصالحة أو التوصل لاتفاق مصالحة دون آليات تنفيذ وجدول زمني يرتبط بالوضع القادم في غزة بعد الحرب، أو تعثر ما توصلت له الفصائل الفلسطينية بشأن المصالحة بين فتح وحماس في الصين كما حدث في اتفاق الجزائر. ومن مؤشرات هذا التعثر الفجوة الكبيرة بين ما تريده حماس وما يريده الرئيس عباس وتياره.

يرتبط الاحتمال الأول من السيناريو، أي التوافق الوطني بين القوى الفتحاوية المناهضة لعباس في الحركة وخارجها، بمؤشرات، منها: شبه إجماع لهذه القوى على فكرة تجديد النظام السياسي الفلسطيني بأسس “وحدوية وديمقراطية”؛ مما يجعلها منفتحة على إمكانية التقارب والتوحد على هذه الفكرة، وانفتاح حماس على الأطراف الداعية للوحدة الوطنية معها بما يضمن الحفاظ على برنامج المقاومة ودور الحركة، ومنها أطراف فتحاوية ترتبط بالتيار المقرب من الأسير مروان البرغوثي الذي تسعى حماس للإفراج عنه في صفقة تبادل الأسرى القادمة مع إسرائيل، وهناك توقع لدى الحركة وفصائل المقاومة بأن يسهم البرغوثي في إحداث التغيير من الداخل وتوحيد حركة فتح في حال تحرره وفوزه في الانتخابات. وتتقارب حماس أيضًا مع آراء بعض أعضاء اللجنة المركزية والمجلس الثوري لفتح ممن يطالبون بالوحدة على قاعدة مشتركة ويؤيدون نهج “الكفاح المسلح”.

كما تنفتح حماس على مبادرات تسعى لقيادة فلسطينية موحدة وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس “توافقية”، كمبادرة المؤتمر الوطني الفلسطيني(46) التي انطلقت في فبراير/شباط 2024، التي تشكل نموذجًا عابرًا للفصائلية لتأسيس “وحدة وطنية” جديدة بين جميع الفصائل تفضي إلى إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، ويمكن أن تشكِّل جانبًا من مستقبل غزة. وقد شارك في التوقيع عليها بشكل منفرد مئات الشخصيات الفلسطينية المؤثرة من جميع الأحزاب ومنها فتح وحماس في فلسطين والعالم(47).

ويرتبط تحقق الاحتمال الثاني من السيناريو، أي مشاركة المنشقين عن فتح فقط في إدارة غزة، بقبولهم أو أي منهم بمبدأ المشاركة في إدارة غزة، لاسيما أن دحلان نفى قبوله بالدخول في مثل هذا المسار. والأهم بمدى موافقة حماس على مبادرة دحلان للمشاركة في مستقبل غزة؛ حيث ترفض الحركة أي مبادرة تقصي دورها في القطاع مستقبلًا، كما لا يلقى دحلان قبولًا لدى تيارات حركة حماس المقربة من المقاومة في غزة، بسبب سجله الأمني السابق في الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، ودوره في أحداث الاقتتال الفلسطيني بين فتح وحماس.

السيناريو الثالث: عدم مشاركة تامة رسمية أو غير رسمية لفتح وتياراتها في مستقبل غزة وبقاء مستقبل غزة مرهونًا فقط بنتيجة هذه الحرب وخياراتها سواء ببقاء حكم حماس، أو سيطرة إسرائيلية عليها؛ وذلك في حال فشل تطبيق اتفاق المصالحة الذي جرى توقيعه في الصين لأسباب منها الاختلاف على آليات وخطط تنفيذه، أو إفشال قيادة فتح الحالية لأي مصالحة خارج إطار شروطها، والسعي للتحكم في مستقبل غزة من خلال العلاقة مع الأطراف الإقليمية والدولية ومنها إسرائيل وأطراف عربية. ويتعزز هذا السيناريو في حال استمرار قيادة فتح أو تبعيتها للسلطة على حالها.

خاتمة
في ظل ما آل له الوضع الفلسطيني بعد الطوفان والحرب على غزة، فإن هذه المرحلة باتت تشكِّل أساسًا لإعادة تموضع مسارات القضية الفلسطينية وفاعليها، ومنها حركة فتح التي كانت تواجه قبل هذه المرحلة عدة مآزق برامجية وتنظيمية أثَّرت على مكانتها ودورها. وهناك اليوم تباين في الآراء داخل الحركة من طوفان الأقصى والعلاقة بحماس، ومن نظرتها للمقاومة وفكرة المصالحة الفلسطينية وآثار الحرب الدائرة في غزة فضلًا عن دور الحركة المطلوب هناك، وهذا لا يؤثر على مستقبل وحدة الحركة وتوجهاتها فحسب، بل يلقي بظلاله أيضًا على مسار دورها داخل السلطة ومشروعها ومستقبله.

وفي ظل النقاشات الحالية حول مستقبل غزة ضمن مفاوضات التهدئة الجارية، ومحاولات تحقيق المصالحة التي هي أحد محددات المسارات المحتملة لشكل الحكم القادم في غزة، لا يبدو أن السلطة بهيكلها وأدائها الحالي استطاعت أن تنال رضى الأطراف الإقليمية ومنهم إسرائيل للقيام بدور أساسي في القطاع، وأي دور لها سيكون مقيدًا بشروط وبإحداث تغييرات في بنية السلطة. لكن بالتقاطع بين السيناريوهات هناك فرصة للقبول بتشكيل قوة أخرى مستقلة عن السلطة، لو كانت منبثقة عنها ومن حركة فتح، أو أن تكون من المنشقين عن فتح. وهذه الأخيرة قد تكون بداية لإعادة هيكلة السلطة الفلسطينية نفسها، وقد تكون أيضًا بداية جديدة لتشكل جديد في حركة فتح ولو كان جزئيًّا. يبدو أن اليوم التالي في غزة، هو يوم تال في مسار القضية الفلسطينية وقواها.

إغلاق