من اتفاق أوسلو حتى العدوان الأخير على غزة

من اتفاق أوسلو حتى العدوان الأخير على غزة

القاهرة – الشاهد| كتب أسامة عجاج ومنى العزب.. منذ ٣١ عاما عاش العالم كله وشعوب منطقة الشرق الأوسط والدول العربية على أمل أننا قد نكون أمام لحظة تاريخية استثنائية عندما جمع الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر بين كل من الزعيم الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق رابين فى احتفال التوقيع على اتفاق أوسلو مما اعتبره البعض نقطة فاصلة ما بعدها يختلف جذريا عما قبلها.. بعد لقاء الأعداء التاريخيين سمح الاتفاق لياسر عرفات بالعودة الى وطنه بعد تغريبة استمرت عشرات السنين للعمل بهمة فى إقامة حلم الدولة الجديدة ولكنه سرعان ما اكتشف الحقيقة ان كل بند فى الاتفاق يحتاج الى جولة مفاوضات جديدة وأن المرحلة الانتقالية تم تضمينها فقط لمجرد التسويف وأن السلطة التى حلم بها تعيش تحت حصار كامل صلاحيتها محدودة وتتلاشى يوما بعد يوم.. ولم يحتمل الشعب الفلسطينى إجهاض حلمه فخرج فى الانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠ فى ٢٨ سبتمبر منذ ٢٤ عاما بالتمام والكمال واستمرت إسرائيل فى مخططاتها باتجاه توسيع المستوطنات وزيادة أعداد المستوطنين وتهويد الأماكن المقدسة كما زادت معدلات العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة فى أعوام ٢٠٠٢ و٢٠٠٩ و٢٠١٤ و٢٠١٩ و٢٠٢١ والعام الماضى حتى وصلنا الى العدوان الأخطر المستمر حوالى عام كامل وهو الأكثر دموية ودمارا على قطاع غزة وأخرج المواجهات من إطار الفلسطينيين والإسرائيليين الى ساحات أخرى مع توقعات بتوسيعها الى حرب إقليمية. وهذا الملف محاولة سريعة لرصد ما جرى من خلال التركيز على الوضع فى لبنان واستمرار العدوان على غزة نتوقف خلالها عند (الحصاد المر) لاتفاقية أوسلو مع رصد الانتصار السياسى الأخير الذى أحرزته السلطة الفلسطينية فى ساحات الأمم المتحدة.. وعلى المستوى اللبنانى نرصد التصعيد الأخير من خلال مناقشة شكل الرد من حزب الله ولماذا سعت واشنطن لتبرئة نفسها من ذلك العدوان؟ وتداعياته على الداخل الاسرائيلى، وتأجيل استقالة وزير الدفاع بعد تخطيط نتنياهو لذلك.

انتصار فلسطينى مدعوم عربيا ودوليا ولكن هذه المرة فى ساحة أخرى بعيدة آلاف الكيلومترات عن الصراع العسكرى فى ساحات القتال الممتدة فى قوس الأزمة من غزة والضفة والقدس الى لبنان وسوريا والعراق جنوبا الى اليمن وحتى العاصمة الايرانية طهران.. موازين القوى هنا مختلفة مع اختلاف أدوات المواجهة، هنا ساحة الجمعية العامة للأمم المتحدة حيث السياسة تحكم والحق يعلو أحيانا فوق طائرات الغدر وصواريخ العدوان التى تتسبب فى سقوط عشرات الالاف من الضحايا، حيث تمكن الوفد الفلسطينى منذ أيام فى اول ممارسة للمزايا التى حصل عليها فى مايو الماضى من تمرير قرار مهم حظى بموافقة ١٢٤ صوتا مع اعتراض ١٤ وامتناع ٤٣ صوتا عن التصويت حيث يدعو القرار الى انهاء الوجود غير القانونى لإسرائيل فى الاراضى الفلسطينية خلال ١٢ شهرا ويرحب بالرأى الاستشارى الصادر عن محكمة العدل الدولية فى يوليو الماضى.

لم يكن تمرير القرار سهلا ولا هينا فى ظل الضغوط الامريكية التى مارستها واشنطن وتنوعت أسباب اعتبار صدور هذا القرار نصرا سياسيا لفلسطين الدولة وللحق الفلسطينى ونتوقف عند بعضها وهى كالتالى:
أولا: انه اول تطبيق فعلى للامتيازات التى حصلت عليها فلسطين من قرار مايو الماضى والذى دخل حيز التنفيذ منذ بداية هذا الشهر ومنها الحصول على مقعد وتقديم مقترحات وإدخال تعديلات على مشاريع القرارات واثارة الإجراءات الإجرائية دون المرور على دولة أخرى عندما كانت فلسطين دولة مراقب فى الأمم المتحدة وان كان لم يمنحها حق التصويت.
ثانيا: يكفى رصد فعل كل من تل ابيب وواشنطن على القرار كنموذج على انه أصابهما فى مقتل واحدث حالة من الصدمة والغضب الشديد حيث وصف المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية اورين مارمورستاين الأمم المتحدة بالمسرح السياسى والسياسة الدولية بانها مشينة واعتبر القرار منحازا ومنفصلا عن الواقع ويشجع الإرهاب ويضر بفرص السلام.. وتبجح المندوب الاسرائيلى فى الأمم المتحدة دانى دانون وقال انه قرار مخز يدعم الإرهاب الدبلوماسى للسلطة الفلسطينية ووصف ما جرى بانه مهزلة ومؤيدى القرار بانهم ليسوا مجرد متفرجين بل متعاونون فى دعم العنف ويشجعون الذين ينبذون السلام.. السفيرة الامريكية توماس جرينفيلد وصفت النص بانه متحيز لا يعتبر حماس إرهابية وتملك السلطة فى غزة كما انه لا يساهم فى تحقيق تقدم نحو حل الدولتين.
ثالثا: ان القرار يكرس حقيقة ان إسرائيل فى حرب حقيقية ضد المنظمة الدولية خاصة فى الأشهر الأخيرة بالهجوم على أمينها العام وكبار المسئولين فيها وتتهمها بمعاداة السامية وتتعامل معها بازدراء وتكيل الاتهامات لمنظماتها فى مقدمتها وكالة غوث اللاجئين والمحكمة الجنائية والعدل الدولية.
رابعا: ان القرار هو خطوة جديدة باتجاه الانحياز للحق الفلسطينى الذى يأخذ منحنى متصاعدا يمكن رصده بسهولة خلال الأشهر الماضية فمنذ أكتوبر الماضى اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بوقف العدوان بأكثرية ١٢٠ صوتا.
وشهد مايو الماضى خطوة متقدمة بموافقة ١٤٣ دولة ومعارضة تسع دول وامتناع ٢٥ عن التصويت قررت الأمم المتحدة منح فلسطين امتيازات عديدة، وما تختلف فيه عن العضوية الكاملة هو منعها من التصويت باعتبارها دولة مراقب وجاء الدور على محكمة العدل الدولية والتى اعتبرت فى يوليو الماضى استمرار الوجود الإسرائيلى غير قانونى ودعت الى انهائه فى اقرب وقت ممكن والوقف الفورى لكل النشاطات الاستيطانية الجديدة واجلاء المستوطنين ودعت كل الدول الى عدم الاعتراف بهذه التغييرات مع دعوة الأمم المتحدة ومجلس الامن للنظر فى سبل وإجراءات انهاء هذا الوجود غير القانونى مع إقرار يطالب بإعادة أملاك الفلسطينيين والسماح بعودة اللاجئين ووقف تصدير السلاح الى تل ابيب واتخاذ اجراءات عقابية فى حال عدم التزامها بالتنفيذ.. كما اعترفت فى مايو الماضى ثلاث دول اوربية بالدولة الفلسطينية هى ايرلندا والنرويج واسبانيا حيث قدم السفير حسنى عبد الواحد أوراق اعتماده الى ملك اسبانيا فيليب السادس منذ أيام.
وبعد فدعونا نشير الى ان القرار والرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية قد لا يكونان ملزمين ولكنهما جزء من تكريس عزلة إسرائيل قد يساعد فى المسعى العربى الذى تم اقراره فى اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب فى مايو الماضى لتجميد عضوية إسرائيل فى الأمم المتحدة وهناك سابقة لذلك عام ١٩٧٤ ضد جنوب افريقيا فى زمن الفصل العنصرى كما انه خطوة مهمة على طريق الالف ميل لنيل الشعب الفلسطينى حقوقه المشروعة فى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

فلسطين.. مخاوف على القدس وتغييب للسلطة

إنها الذكرى الواحد والثلاثون لاتفاقية أوسلو التى وُقعت فى البيت الأبيض بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل يوم 13 سبتمبر من عام 1993، بعد سلسلة من المحادثات، جاءت نتاجًا لمفاوضات مدريد التى سبقت الاتفاق بعامين.
وقد أدى اتفاق السلام المزعوم إلى إنشاء السلطة الفلسطينية، التى تهدف إلى توفير حكم ذاتى مؤقت لمدة خمس سنوات فقط بينما تحل المفاوضات القضايا الأساسية العالقة فى الصراع. نظرت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الفترة الانتقالية باعتبارها ممرًا لإقامة دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة كخطوة أولى نحو التحرير الكامل لفلسطين.
أُنشئت السلطة الفلسطينية ومؤسساتها فور توقيع الاتفاقية، كان من المفترض أن يتم استبدال السلطة الفلسطينية بحكومة منتخبة، تدير دولة مستقلة فى الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية.
فخلقت الاتفاقية لدى الفلسطينيين الأمل فى بعض الاستقلالية، لكن تبين لاحقا أن ذلك لم يكن إلا وهما، خاصة فيما يتعلق بمدينة القدس التى هُمشت وأُجّلت ضمن ما أطلقت عليها حينذاك «قضايا الحل النهائى»، وهو الأمر الذى أفسح المجال أمام إسرائيل لتهويد كل القطاعات فى العاصمة المحتلة، ووأد حل الدولتين الذى يَعتبر الشطر الشرقى من المدينة عاصمة لدولة فلسطين.
كانت موافقة الجانب الفلسطينى على تأجيل القدس لقضايا الحل النهائى منوطة باستئناف المفاوضات بعد 3 أعوام من توقيع الاتفاقية، وسُميت آنذاك «مفاوضات الوضع الدائم» من أجل التوصل لتسوية دائمة حول من يتحكم بشرقى القدس والأماكن المقدسة وسكان المدينة، لكن إسرائيل دأبت منذ توقيع الاتفاقية فى تغيير الواقع على الأرض، فأحكمت قبضتها على القدس، ومنعت أى حضور للسلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير فى أى مؤسسة أو نشاط بالمدينة.
كان دخول اليهود إلى المسجد الأقصى منوطًا بشراء تذكرة من دائرة الأوقاف الإسلامية بصفتهم سياحا، ولم تكن ترافقهم شرطة الاحتلال لحمايتهم ولا يؤدون خلال وجودهم فيه أى طقوس أو صلوات توراتية. وبعد توقيع الاتفاقية، بدأت تُفرض عدة أجندات: أولاها عام 1994 عندما انطلقت محاولات السيطرة على ما تحت المسجد، ثم التقسيم الزمانى بعد انتزاع أمر قضائى يسمح للمستوطنين باقتحام المسجد عام 2003، ثم مشروع التقسيم المكانى عام 2008.
ووصل الوضع حاليا إلى قيام المستوطنين بأداء كل الصلوات والطقوس التوراتية فى ساحات الأقصى خاصة الشرقية منها، بدعم مباشر من بعض المسئولين والحاخامات وعلى رأسهم الوزير المتطرف إيتمار بن غفير الذى قال مؤخرا إنه سيبنى كنيسا داخل المسجد.
عندما أُجلت القدس لقضايا الحل النهائى، استغل المحتل هذا البند وبدأ بتوسيع الاستيطان، وكانت أول مستوطنة تمت توسعتها داخل المدينة هى «هار حوماه». وفى عام 1995، تمت مصادرة كثير من الأراضى لصالح توسيع المستوطنات فى منطقتى بيت حنينا وبيت صفافا بالقدس، وهذا أدى لارتفاع أعداد المستوطنين بشكل تدريجى. كان عدد المستوطنين فى الضفة الغربية دون القدس الشرقية عند التوقيع على اتفاقية أوسلو الأولى عام 1993 نحو 115 ألفاً ليصل نهاية العام 2022 إلى أكثر من 500 ألف مستوطن، يسكنون فى 158 مستوطنة إسرائيلية فى الضفة الغربية، بما فى ذلك 24 فى القدس الشرقية، بالإضافة إلى ما يقارب 200 بؤرة استيطانية ومزرعة رعوية إسرائيلية غير قانونية يسكنها نحو 25 ألف مستوطن. وفى المجموع، يعيش الآن أكثر من 500 ألف مستوطن إسرائيلى فى الضفة الغربية بالإضافة إلى 250 ألف يقيمون فى القدس الشرقية، أى أن المجموع تجاوز 750 ألف مستوطن، ما يشكل 7 أضعاف العدد الذى كان عليه الحال فى عام 1993.
إذا نظرنا للقدس فى أوسلو، فإن تأجيل البت فيها كان كارثيا من النواحى كافة، لأن ذلك أفسح المجال أمام إسرائيل لتفعل ما تشاء، وتسريع دمج شطرى المدينة الشرقى والغربى وإقامة المؤسسات السيادية فى القدس الشرقية وإنشاء الأنفاق وتوسيع المستوطنات، وتُرك للفلسطينيين 13% فقط من القدس الشرقية التى تقدر مساحتها بـ72 كيلومترا مربعا، لأن الأراضى صودرت للمصلحة العامة أو صنفت على أنها مناطق خضراء أو ممنوع البناء فيها أو بسبب شق الشوارع وتوسيع مسار القطار الخفيف.
كما أن إعلان الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب القدس عاصمة موحدة لإسرائيل عام 2017، أطلق مزيدًا من العنان لإسرائيل من أجل الوصول للأهداف الاستراتيجية بجعل القدس مدينة موحدة تحت سيادتها، فزادت عمليات التهويد وتسارعت.
كذلك فقد ساهمت اتفاقية أوسلو فى سلخ القدس عن محيطها الجغرافى الفلسطيني، وهذا أدى بطبيعة الحال لوأد اقتصادها، وفقا لوزير الاقتصاد الفلسطينى الأسبق مازن سنقرط. حيث عُزلت مدينة «القدس بشكل أكبر بعد بناء الجدار العازل حولها، ومحاصرة بوابات البلدة القديمة بالوجود العسكرى الدائم، ونتج عن ذلك ضعف الحركة الشرائية، خاصة فى أسواق البلدة القديمة التى أغلقت أبواب نحو 450 من حوانيتها من أصل 1450. ولم يتأثر اقتصاد المدينة بضعف الحركة الشرائية فحسب، بل بإنهاك المقدسيين بنحو 12 نوعا من الضرائب والرسوم المختلفة، وهو ما يجعل نحو 80% منهم يعيشون تحت خط الفقر. كما يمنع على المقدسيين العيش خارج المدينة خشية فقدان حقهم بالإقامة فيها، فإنهم يتكدسون فى شقق يبلغ متوسط مساحتها 40 مترا مربعا خاصة بالبلدة القديمة التى يتشارك 12% من سكانها مع جيرانهم فى الخدمات الصحية، و14% يتشاركون مع جيرانهم فى المطابخ.
بعد كل هذه السنوات التى مرت على الاتفاق، واستمرار جولات المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وجولات المواجهة بينهم سواء كانت شعبية أو مسلحة، لا تزال الوقائع تؤشر إلى انسداد فى الأفق السياسى، ولم يبق من اتفاق أوسلو غير جدل الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة للمناطق الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية بموجب الاتفاق.
فهل أصبح سقف الطموح والحلم الفلسطينى راهناً إعادة أوسلو، والمحافظة على بقاء السلطة الفلسطينية ليس أكثر، من خلال السياسة الرسمية الحالية التى تعمل لإعادة إنتاج أوسلو باعتباره أقصى ما يمكن تحقيقه!

إسرائيل.. زيادة المستوطنات وتوغل المستوطنين
بعد مرور ٣١ عاما على اتفاق أوسلو الذى تم توقيعه في البيت الأبيض بين منظمة التحرير وإسرائيل فى 13 سبتمبر 1993، أصبحت احتمالات السلام والمصالحة أبعد من أى وقت مضى، فعلى الرغم من أن هدف الاتفاقية كان حل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى بحلول مايو 1999، إلا أن التعقيدات التى كانت وراء عقود من الأعمال العدائية أدت فى النهاية لإخراج العملية عن مسارها وتركت القضايا الأكثر تحديًا لتشتعل فى القرن الحادى والعشرين.
ففى انتهاك للقانون الدولي، توسعت المستوطنات الإسرائيلية فى معظم أنحاء الضفة الغربية، وقسمت الأراضى الفلسطينية بطرق جديدة وولايات قضائية احتفظت بها للمستوطنين اليهود. وتحت الأرض، يتم تحويل طبقات المياه الجوفية إلى المستوطنات، مما يفرض نقصاً مزمناً فى المياه على الفلسطينيين. وأصبحت القدس الشرقية، العاصمة المفترضة للدولة الفلسطينية المستقبلية، موطناً لأكثر من 200 ألف مستوطن يهودي؛ ويواجه العديد من السكان الفلسطينيين هناك حملة ضمنية لطردهم من الأحياء التى عاشوا فيها لأجيال. ولا يظهر الحكم العسكرى الإسرائيلى الراسخ على ملايين الفلسطينيين أى علامة على التراجع.
استفادت إسرائيل بلا شك من اتفاقيات أوسلو. فقد أدت الاتفاقيات إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى البلاد، مما ساعد فى إطلاق طفرة التكنولوجيا التى دفعت نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى فى إسرائيل إلى مستوى أعلى من نصيب الفرد فى معظم الدول الأوروبية. وفى الوقت نفسه، وتحت وهم عملية السلام الراسخة، رسخت إسرائيل سيطرتها الفعلية على الأراضى الفلسطينية. لقد أعطتنا اتفاقيات أوسلو ما وصفه الكاتب فى صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان مؤخرًا بأنه «الخيال المشترك بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية كان مؤقتًا فقط».
كما أن إجراءات وسياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تناغمت فيما بينها فى كل ما يتعلق بالتحلل التدريجى من اتفاقية أوسلو وتفريغها من مضمونها، وعدم الالتزام بملاحقها إلا بما يتناسب مع المصالح الاستراتيجية للكيان المحتل.
ووفقا لقراءات المحللين وتقديرات مراكز الأبحاث فى تل أبيب، فإن حكومات إسرائيل أبقت على اتفاقية أوسلو عالقة منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، وبالمقابل اعتمدت إجراءات مختلفة وفرضت وقائع على الأرض تحول دون إقامة دولة فلسطينية بالضفة الغربية ضمن حدود الرابع من يونيو 1967.
ورغم أن جوهر اتفاقية أوسلو ارتكز على مبدأ التعاون والتنسيق والثقة المتبادلة بين الجانبين، إلا أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تحللت من كافة المراحل والإجراءات والخطوات لتطبيق الاتفاق. فقد استغلت إسرائيل اتفاق أوسلو لتنفيذ كل المشاريع التى كانت موجودة ومجمدة ضمن مخططاتها ومنها المخططات الاستيطانية فى كافة الضفة الغربية وفى قطاع غزة آنذاك، حيث ارتفع عدد المستوطنين من 110 آلاف عام 1993 إلى نحو 516 ألفا فى الضفة الغربية فى 2024، إضافة إلى 230 ألف مستوطن داخل القدس.
ورغم أن اتفاقية أوسلو أبقت نحو 60% من أراضى الضفة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة وصنفت «ج»، فإن إسرائيل اتخذت مؤخرا قرارا بإخضاع المنطقة «ب» التى يفترض أن تخضع للسلطة الفلسطينية مدنيا، للسيطرة المدنية والعسكرية الإسرائيلية. وفى القدس ازداد الاستيطان بهدف دمج القدس الغربية والشرقية وتقطيع أوصال الأحياء الفلسطينية بالبنى التحية والأنفاق والجسور وفرض أمر واقع يجعل من المدينة عاصمة لإسرائيل. ووفق معطيات الجهاز المركزى للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد المواقع الاستيطانية والقواعد العسكرية الإسرائيلية فى نهاية عام 2022 فى الضفة الغربية 483 موقعا «منها 151 مستعمرة و25 بؤرة مأهولة تم اعتبارها كأحياء تابعة لمستعمرات قائمة، و163 بؤرة استعمارية. ولا تتوقف طموحات إسرائيل عند تعزيز المستوطنات فى الضفة الغربية؛ فقد دعا بعض المتطرفين لإعادة بناء مستوطنات داخل غزة. ما تقدمه الحكومة الإسرائيلية للمستوطنات لا يقتصر على الدعم المالى والحماية العسكرية، بل يمتد لتسليح المستوطنين المتطرفين بحجة تمكينهم من حماية أنفسهم. وفى الواقع، استخدموا هذه الأسلحة لمهاجمة الفلسطينيين والاستيلاء على ممتلكاتهم. وبحسب تقارير الأمم المتحدة، ارتفعت هجمات المستوطنين عام 2023 إلى أعلى مستوى لها. وشهدت الضفة الغربية تسارع وتيرة الهجمات بعد حادثة طوفان الأقصى، حيث وثقت الأمم المتحدة أكثر من 700 هجوم للمستوطنين من 7 أكتوبر 2023 حتى أوائل أبريل، شارك فيه الجيش الإسرائيلي. كان الهدف المعلن لاتفاقية أوسلو هو العمل على استعادة الأراضى المحتلة عام 1967 على مراحل، تمهيداً لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. إلا أن إسرائيل واصلت مشروعها الاستيطاني، واستولت على مساحات شاسعة من الضفة الغربية، ولم يتبق للفلسطينيين سوى نحو 15% من أراضى فلسطين التاريخية.

إغلاق