عام من “الطوفان” وما شجن في النفس والعالم!
رام الله – الشاهد| خط الكاتب علي حسن إبراهيم مقالاً في الذكرى الأولى لمعركة “طوفان الأقصى” استذكر فيها أهم المحطات التي مرت بها والنتائج الاستراتيجية التي أضافتها للقضية الفلسطينية، والتي كادت أن تندثر خلال الأعوام الأخيرة، وفيما يلي نص المقال.
لو سألنا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 أيَّ خبير إستراتيجي أو محلل سياسي، عن التغييرات الكبرى في العالم، والصراعات القادمة فيه، لتحدث عن ملفات عديدة، ابتداء بالصراع الروسي والأوكراني، وتحجيم الولايات المتحدة للصين اقتصاديًا، وكبح جماحها في بحرها الجنوبي، وصولًا إلى المضي قدمًا في التطبيع العربي مع الاحتلال وعزل منطقتنا – نظريًا – عن الصراعات وما يتصل بها من سلام مزعوم، والعمل الفعلي على إنهاء القضية الفلسطينية.
ولكن!!
جاء السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ورأينا العبور في قوته وثباته.. صور ومشاهد علقت في الذاكرة، وفتحت كوة في جدران المستحيل، وأعطت كل غيور درسًا في مساحات الممكن، وأكدت أن قدرات الفعل لم تغلق بعد، فها هم المحاصرون منذ سنين ينساحون في غلاف غزة وما بعده، يضربون الاحتلال ضربة لم يستطع الخروج منها حتى اللحظة.
لم تقف ارتدادات العبور حتى اللحظة، وأمواج الطوفان – على الرغم من الوحشية والمجازر – ما زالت تضرب كل صعيد ومكان، وقد كسرت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، وضربت كل نظريات الأمن التي أطلقها في السنوات الماضية، واستطاع مئات المؤمنين المتسلحين بزاد التوكل، والمعية الربانية، أن يهزموا القوة التي أريد لها أن تتحكم ببلداننا ومصائرنا.
حطمت تلك الارتدادات كذلك مخططات التيه العربي، وعرت مشاريع الزيف والخيانة، وكان الطوفان شرارة تغييرات كبرى في المنطقة، ما زلنا نتابع تطوراتها، ونشهد تدحرج كرة النار رويدًا رويدًا، وهي تطورات لم تقف عند العالمين العربي والإسلامي فقط، بل وصلت أبعد من ذلك بكثير.
أكتب هذه الكلمات وصوت الجزيرة يأتي بخبر عن قصف “تل أبيب” بخمسة صواريخ من جنوب قطاع غزة، أسمع هذا الخبر وأعود مرة أخرى إلى الـ 365 يومًا الماضية بما حملته من مفاخر وعزة وكرامة وسؤدد ومشاعر، وما حملته الوحشية الإسرائيلية من الآلام والحسرات ومشاهد القتل والموت والدمار، وفوقها شعور لا يطاق من العجز والوهن، وكأن قلوبنا صارت كطيور تتراقص بين طائفتين من المشاعر.
وبكل تأكيد لا تستطيع الثانية أن تمحو الأولى، فما زالت صور العبور ماثلة حاضرة، وكما يقول أحد الكتاب الفلسطينيين واصفًا هذه اللحظة، فإن المقاومة الفلسطينية في صبيحة ذلك اليوم “كسرت آلة التاريخ في هذا الركن من العالم، وعبرت كما لم يعبر أحد”، ومن لحظة الانكسار التاريخي، ومشاهد ضرب الكيان مرة جديدة بعد عام من العدوان، تأكيد متجدد على مكانة هذه المقاومة، وما تستطيع تحقيقه والقيام به.
لقد أشرع “طوفان الأقصى”، موسمًا للهجرة إلى فلسطين، فكريًا ووجدانيًا ومعرفيًا وإيمانيًا، ولو كان ما نشهده من “استعادة فلسطين” طيلة عام مضى الفضيلة الوحيدة لعملية الطوفان لكفى، فقد عادت القضية إلى شعوبنا العربية والإسلامية، بل إلى الغرب كذلك، بكل ما تحمله من رمزيات وأبعاد وأفكار.
ولم يعد الحديث عنها مقصورًا على نخب متضامنة هنا أو هناك، وسط محاولات تزييف وعي الشعوب، بل عادت لتلتحم مع الجماهير، تركز على حقوق الشعب الفلسطيني، وتعيد تأكيد كره المحتل والبراءة منه ومن تصرفاته، وتنبذه بكل شكل من الأشكال، وسادت السردية التي ضمرت لسنين طويلة، فالقضية لا تتعلق بالسابع من أكتوبر/ تشرين الأول فقط، بل جذورها أعمق من ذلك بكثير، جذورها تاريخ ضارب القدم، وشعب حي يضحي ويقاوم، وشعوب تتوق لكسر الهيمنة الغربية.
لقد وصلت أمواج الطوفان إلى قلب الجامعات الأميركية، والتي صبغت بعلم فلسطين.. وما كانت تُعرف بأوكار الصهيونية في الغرب أصبحت محاضن تضامن مستمر، حاولوا القضاء عليها وإنهاءها، ولكنها استمرت على الرغم من كل المنغصات والمعيقات؛ فكانت ثورة جديدة من التضامن، شملت عشرات الجامعات في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وغيرها من دول العالم، وما زالت المظاهرات الحاشدة تنطلق أسبوعيًا في العديد من عواصم العالم تنديدًا بمجازر الاحتلال، ورفضًا لما تقوم به آلة القتل الصهيونية.
لقد سقطت رواية الاحتلال، ولم تعد أكاذيبه تنطلي على العالم، إلا من باع نفسه للصهيونية، وكما أن هناك من يصفق للقاتل بحرارة في الكونغرس الأميركي، هناك الملايين الذين عرفوا حق المعرفة من هو اللص، وأن فلسطين أرض محتلة، وأن الفلسطينيين يدافعون عن أرضهم، ويقدمون الغالي والنفيس لاستعادتها، وأن الاحتلال كيان سرطاني دخيل.
أحيا الطوفان في النفوس ما كمن فيها من عزة وكرامة، وأحيا صورًا كادت أن تضمحل في غمرة سلطة الثقافة المتغلبة، وقرب اندثار النماذج السامية، وذكّر الجموع بأن في أيديها القدرة على الفعل ولو كانت مكبلة من قبل سلطات قمعية، فعلى الرغم من التقاعس الكبير والأداء الخجول في مقابل الحاجات الملحة، وظروف العدوان، والدعوات المتكررة إلى استنهاض كل الطاقات لمواجهة الأمة، فإن هناك بصيص أمل يلوح في الأفق.
وصف بعض الخبراء أمتنا، بأننا نختزن في ذاكرتنا هذه الصور، ونتحمل الضربات الواحدة تلو أخرى، حتى لحظة فارقة، تنفجر فيها من جديد!. وإني أرى ذلك الانفجار قادمًا لا محالة، وتلك الجموع التي تكبت دموعها صباح مساء، ستتحول إلى الموجة التالية من “الطوفان”، ولكنه هذه المرة لن يبقي ولن يذر.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=76790