نتنياهو وزيف الجبروت المزعوم

نتنياهو وزيف الجبروت المزعوم

رام الله – الشاهد| سلط الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية مصطفى البرغوثي الضوء خلال مقال له على أبرز الأكاذيب التي يروجها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حول الحرب الدائرة منذ أكثر من عام على قطاع غزة ولبنان، وحذر المقاومة من تمرير خطة نتنياهو في غزة، وفيما يلي نص المقال.

روّج بنيامين نتنياهو منذ بدأ حربه المدمّرة بعد 7 أكتوبر من العام الماضي، فكرتين متناقضتين: الأولى أن إسرائيل تخوض حرباً وجودية تدافع فيها عن بقائها، وبالغ في ذلك إلى حد وصف الخسائر الإسرائيلية في “طوفان الأقصى” الأكبر منذ الهولوكوست. وهدف هذه الفكرة الجوهري هو تصوير إسرائيل نفسها الضحية، بل واحتكار صفة الضحية عموماً. ولم تزعج نتنياهو ومناصري فكرته من حكام الغرب والشرق، أن إسرائيل تحتل أرض شعب آخر، وتمارس اضطهاداً وجرائم حرب هي الأسوأ في عصرنا. الفكرة الثانية، أن إسرائيل كلية الجبروت والقدرة، وستعيد رسم خريطة الشرق الأوسط بكامله خمسين سنة مقبلة، وهو أمر لم يحدث منذ اتفاقية سايكس-بيكو سيئة الصيت.

ولا حاجة بنا لتفنيد الفكرة الأولى؛ إذ لا مصداقية لها، لأن الخطر الوجودي الفعلي هو ما يواجهه الشعب الفلسطيني من مؤامرات وجرائم لتصفية قضيته الوطنية وحقّه في الحرية وتقرير المصير، وإنْ لا بد من التلميح إلى وجاهة اعتقاد بعض الإسرائيليين أن كيانهم يدخل، بسرعة غير معتادة في مسار الدول، في طور الانحدار الذي قد يصل إلى نقطة الزوال، إذا استمر النهج الفاشي الحالي للحركة الصهيونية بكل مكوناتها.

وما يهمّنا هو الفكرة الثانية، أن إسرائيل كلية الجبروت، وستعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، وتلك الفكرة تتناقض مع سلسلة من الأحداث والحقائق التي تكشفت على مدار الحرب الدائرة منذ أكثر من عام، أولها: أنه وبعد أكثر من عام من أطول حرب في تاريخ الكيان الإسرائيلي، يبدو عاجزاً عن استكمال، أو تحقيق أهدافه العسكرية في قطاع غزّة، رغم الفرق الهائل في الإمكانات والمقدّرات والأسلحة وعدد الجنود، حيث يواجه جيش إسرائيل الذي يعتبر في عداد أقوى جيوش العالم قوة مقاومة محاصرة منذ 17 عاماً، ومع ذلك فشل في اقتلاع المقاومة، وفشل في فرض سيطرته العسكرية، وفشل في استرداد أسراه، وفشل في إنجاز التطهير العرقي الذي كان هدفه الرئيسي، ولا يجد هذا الجيش ما يعوّض فشله سوى البطش الوحشي بالمدنيين، خصوصاً النساء والأطفال.

الحقيقة الثانية أن جيش إسرائيل، وقبل أن يفتح جبهة لبنان، عجز عن مواجهة المقاومة الفلسطينية في غزة من دون جسر جوي أميركي، ودعم بالسلاح وأجهزة الاستخبارات من عدد غير قليل من الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا وبريطانيا، بل واحتاج إلى تدفق الأسطول الأميركي إلى بحار المنطقة ليستطيع التركيز على هجماته على قطاع غزّة.

الحقيقة الثالثة، أن “جيش إسرائيل الجبار!” كان عاجزاً عن مواجهة الهجوم الايراني بالصواريخ والمسيّرات من دون دعم جوي دفاعي كامل، من حلف الأطلسي، والقيادة المركزية الأميركية وعدد من قواعد الدول الغربية وجيوشها المنتشرة في المحيط. ورغم كل ذلك الدعم، أصيبت قواعد عسكرية إسرائيلية بشكل جدي في ذلك الهجوم، واضطرت الولايات المتحدة إلى إرسال أحدث منظومة دفاع جوي لديها (منظومة ثاد) مع مشغّليها من العسكريين الأميركيين إلى إسرائيل.

الحقيقة الرابعة، عجز إسرائيل عن مواجهة المُسيرات القادمة من لبنان، وفشل جيشها في تنفيذ اجتياح بري واسع لجنوب ووسط لبنان كما كان يخطط، وعدم قدرته على استثمار نجاحه الاستخباراتي واغتيال عدد هام من قيادة حزب الله، لتحقيق انهيار كامل للحزب كان يحلم به.

الحقيقة الخامسة، أن صعود الفاشية في إسرائيل لم يستطع حمايتها من تفكّك داخلي متصاعد بسبب طول فترة الحرب، وتعاظم الخسائر البشرية، وتعمّق الأزمة الاقتصادية الناجمة عن خسائر غير متوقّعة، وهروب مئات الآلاف بحثا عن الأمن والأمان، بعد أن صارت فلسطين بكاملها ساحة مواجهة مفتوحة.

والمفارقة أن كل هذا الفشل يحدُث في ظل فرص إقليمية وعالمية لم تحظ إسرائيل بمثلها في الماضي، ولن تحظى بها في المستقبل. إذ أنها شنت حربها في ظل تواطؤ من عدة دول إقليمية، ومن يرغب في مزيد من المعرفة يستطيع العودة إلى كتاب بوب وودورد الجديد، وعنوانه “الحرب”، وفي ظل ضعفٍ لا مثيل له على مستوى الحكومات في التضامن العربي والإسلامي مع الشعب الفلسطيني، على عكس مواقف الشعوب بالطبع، وهي المغلوبة على أمرها.

على الصعيد الدولي، حظيت إسرائيل بدعم مطلق بالسلاح والمال والدعم السياسي، وحتى المشاركة العسكرية المباشرة للجيش الأميركي وعدد من الجيوش الغربية، كما تمتعت بدعم مالي وصل إلى 40 مليار دولار من إدارة بايدن، وحماية وصلت إلى حد الوقاحة في مجلس الأمن وأروقة الأمم المتحدة. ولم يكن لدى الفلسطينيين في هذه المواجهة قطبٌ موازٍ للقطب الأميركي والغربي عالمياً، كما كان يجري في الحرب الباردة، في ظل التنافس الأميركي السوفييتي آنذاك، وهناك فرق بالطبع بين الدعم بالبيانات السياسية والمواقف وبين الدعم المادي بالسلاح والمال، وحتى الجنود والضباط.

ومع كل هذه الفروق الهائلة في الإمكانات والموارد ومصادر الدعم، فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها، وواصلت المراوحة، ولم تجد سوى البطش بالمدنيين العزّل وسيلة لتنفيس غضبها وإحساسها بالفشل. وليس في نيتنا هنا التقليل من حجم الخسائر البشرية والمادية التي سبّبها العدوان الإسرائيلي للشعبين الفلسطيني واللبناني، خصوصاً في قطاع غزة، وهي خسائر إنسانية هائلة يعجز اللسان عن وصف بشاعتها. غير أن كل تلك الخسائر لم تحقق لإسرائيل انتصاراً استراتيجياً، ولم تُحدث حتى التحول الاستراتيجي الذي سعت إليه.

ومع بداية الانحدار الذي يواجهه نتنياهو وقادة حكومته، يبدو واضحاً أن صورة الجبروت الاستراتيجي التي حاول ترويجها تبخّرت، وسيكون لذلك أثره على سلوك حكومات عديدة في المنطقة، كانت تأمل أن ينفّذ لها نتنياهو أحلامها بالتخلص مما تعتبره، من دون وجه حق، خصوماً لها. وسيكون على نتنياهو مواجهة فشله الاستراتيجي، ومصاعبه الشخصية التي تلاحقه، في ظل انكشاف حقائق الصراع الجاري، خصوصاً لدى مكونات الشعب الفلسطيني، بعد أن زالت أوهام الحلول الوسط، والاعتماد على الولايات المتحدة وسيطاً، وبعد أن تعمّقت لدى أجيال فلسطينية بكاملها القناعة بأن ما يواجهونه ليس فقط آثار النكبة الأولى، من تطهير عرقي، والاحتلال الأطول في التاريخ الحديث، ومنظومة التمييز العنصري (الأبارتهايد) الأسوأ، بل إنهم يواجهون منظومة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الذي تصاعد ليصبح فاشياً بكل معنى الكلمة. وكم كان ذلك جليا في تصويت الكنيست، بأحزابها الحاكمة والمعارضة، لمنع عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في ما جسّد الحقيقة الكبرى، أن إسرائيل تحاول، من دون نجاح، الهروب من ماضيها، ومن جرائمها، ومن تاريخها القصير.

 

إغلاق