إذا كنتَ في كامب ديفيد
رام الله – الشاهد| كتب زياد بركات.. في عام 2008، التقى رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، رئيسَ الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت عدة مرات، وكان الإسرائيلي ينتصر من خلاله أو بسببه دائماً في حرب الصور.
في إحدى تلك الصور التي كانت تبثها مراراً وتكراراً قنوات التلفزة العربية والعالمية، يدخل عباس مقرّ إقامة أولمرت، برفقة أحمد قريع وصائب عريقات، فيستقبله أولمرت في الخارج، ويدخل معه إلى قاعة الاستقبال الصغيرة ليقدّمه ووفده إلى زوجته أليزا: امرأة في الستين، بشعر أشيب ووجه مشرق دائم الابتسام. وما إن يحدث هذا، حتى يُمنى الفلسطينيون بهزيمة ماحقة، فالسيدة تسيطر تماماً على المشهد بودّها الشديد وهي تصافح عباس وقريع، فكيف يمكن أن تقنع أحداً في العالم بأن هذه المرأة، الأنيقة من دون تزيّد أو بهرجة، تُقيم في منزل إنسان فلسطيني اقتلع من أرضه؟ وكيف لا تتعاطف معها عندما تعرف أنها يسارية أصلاً، ورسامة وكاتبة، وأن بعض اللوحات التي تراها على جدران القاعة تحمل توقيعها؟
في لقاء آخر بين الرجلين في القدس في فبراير/ شباط من العام نفسه، تقدّم الصور التلفزيونية المشهد كالآتي: المطر يهطل بغزارة. يترجّل عباس من السيارة وهو يعتمر طاقية تشبه تلك التي كان يعتمرها الروس في الحقبة السوفييتية. يتقدّم عباس أولمرت حاسر الرأس، فيرفع الأخير المظلة فوق رأس ضيفه (عباس) لا فوق رأسه هو.
أي سخاء أخلاقي هذا؟ وأين؟ في القدس التي يفترض أن يتفاوض الرجلان عليها.
في الداخل، يظهر فريق أولمرت التفاوضي، ومن بينهم تسيبي ليفني، جدّيين، من دون إفراط في الابتسامات، فما يفعله أولمرت لا يقوم به فريقه، بينما يبدو عباس وفريقه خارج اللعبة تماماً؛ مجرد ملحق بالمشهد، لا يسيطرون عليه ولا يوجّهون مساره.
وحده أولمرت من يفعل ذلك، منتقلاً من صورة “صاحب البيت” الودود، الأنيق، المتحضّر الذي يستقبل عدوه وفريقه على طاولة الطعام، إلى صورة رئيس فريق التفاوض الجدّي، الذي يعرف الحدود وكيفية الانتقال بينها، بما يكرّسه مايسترو للمشهد، حيث على ضيفه أن يردّ على سخائه بسخاء مقابل، على طاولة المفاوضات التي يفترض أن تكون بين ندّين يتفاوضان على أعقد قضايا العصر الحديث على الإطلاق.
إذا لم يفعل عباس ذلك فإنه يُهزم، على الأقل في الصور التي كانت تبثها قنوات التلفزة بإفراط، وهو ما كان؛ فأولمرت حسمها منذ ترك عباس يتقدمه، منذ رفع المظلة فوق رأسه، وقبلها منذ ترك زوجته أليزا تسيطر تماماً على المشهد باعتبارها صاحبة البيت لا من استولت عليه.
لم يفعل عرفات ذلك أبداً. لم يترك أحداً يسيطر على المشهد في وجوده. في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 بين عرفات وإيهود باراك برعاية بيل كلينتون، كان هناك مشهد بالغ الدلالة: في الاستراحة الريفية للرؤساء الأميركيين يظهر كلينتون متمشياً وهو يتوسط عرفات وباراك. قبل أن يصلوا إلى باب قاعة المفاوضات، يبتسم عرفات وينظر إلى من سنعرف بعد بضع ثوانٍ أنهم صحافيون، بينما يبدو باراك بعضلات صدره وذراعيه أقرب إلى حارس شخصي منه إلى رئيس وزراء.
عند الباب بالضبط، وبعد أن يدخل كلينتون ويغيب عن المشهد، يحاول عرفات وباراك كل من جهته إقناع الآخر بالدخول قبله، على سبيل اللياقات الاجتماعية على الأغلب، فيقاوم عرفات ولا يدخل إلا بعد أن يدفعه باراك دفعاً.
أنت هنا إزاء رجل يحرص على أن يبدو نِدّاً، على طريقته بالطبع، ومختلفاً، فهو في الجهة الأخرى من جبهات الصراع. لا يلبس لباسهم مثلما يفعل عباس ببدلاته الأنيقة، ولا يفرط في التودد بحيث يبدو أنه لا يعرف تلك الحدود التي عليه أن يتحرك فيها، فهو عدو وليس صديقاً، صاحب حق وليس متسوّلاً، بقميصه الكاكي وكوفيته، يبدو مختلفاً عن مألوف مشاهد الاستراحة الريفية تلك، فهو جاءها مفاوضاً، نعم، لكن بثياب المحاربين، بما يميّزه وشعبه، حتى على صعيد الشكل وحركات الجسد، لا بسيماء من يريد أن يكون منهم، ويحظى باستحسانهم.
المقارنة هنا بالغة الأهمية، ليس بين رجلين قادا شعبهما وحسب، بل على صعيد الكيفيات الواعية واللاواعية التي أُنتجت فيها صورتهما وشعبهما، وتلك التي كرّستها كاميرات القنوات التلفزيونية لتجعل أحدها يُهزم قبل أن يجلس على طاولة المفاوضات، والآخر ينتصر من دون أن يبذل جهداً يُذكَر.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=77922