أمن يحرس الكرسي.. لا الوطن

رام الله – الشاهد| محمود كلم: في قلبِ رام الله، حيثُ تتكدَّسُ المكاتبُ، وتتزاحمُ الرُّتَبُ والنِّياشينُ، تقبعُ منظومةٌ أمنيَّةٌ تفوقُ في تعقيدها أفلامَ الجاسوسيَّةِ، وتتفوَّقُ في “فاعليَّتها” على أفلامِ الكرتون!.
لا بُدَّ أنَّكَ لاحظتَ هذا المشهدَ اليوميَّ المُثيرَ للدَّهشةِ؛ جيبٌ تابِعٌ لمنظومةِ الاحتلالِ يتجوَّلُ بكُلِّ أريحيَّةٍ، ومُجنَّدةٌ تبلُغُ من العُمرِ تسعةَ عشرَ عاماً تُلوِّحُ بيدها، وعلى الجانبينِ يقفُ أفرادُ الأجهزةِ الأمنيَّةِ الفلسطينيَّةِ ببدلاتهمُ المكويَّةِ وصُدورِهمُ المُمتلئةِ بالنِّياشينِ، يتحوَّلونَ في لحظاتٍ إلى أشجارٍ مُزهرةٍ أو تماثيلَ صامتةٍ، في مشهدٍ يفوقُ أيَّ عملٍ سحريٍّ في “هاري بوتر”!.
لكن، قبل أن نتعجَّلَ في الحُكمِ، دعونا نتعرَّف إلى هذهِ الأجهزةِ الأمنيَّةِ “العبقريَّةِ” وأدوارِها “الاستثنائيَّةِ”:
١. المُخابراتُ العامَّةُ:
مُهمَّتُها دقيقةٌ جِدّاً وحيويَّةٌ للغايةِ؛ مُراقبةُ المُواطنِ! ماذا يُفطِرُ؟ هل يُفَضِّلُ الفُولَ أمِ الحُمُّصَ؟ متى يشرَبُ شايَه؟ وإذا أضافَ السُّكَّرَ دون تصريحٍ مُسبَقٍ، فاستَعِدَّ للمُساءلةِ!.
٢. الشُّرطةُ الفلسطينيَّةُ:
دائماً في الميدانِ لضبطِ حركةِ المُرورِ، خاصَّةً حين تتكدَّسُ سيّاراتُ منظومةِ الاحتلالِ في الشَّوارعِ! أولويَّتُها القُصوى؛ تَحريرُ المُخالفاتِ للسيّاراتِ المُتوقِّفةِ عشوائيّاً أثناءَ مُرورِ دباباتِ الاحتلالِ.
٣. الاستخباراتُ:
لا يشغلُها الاحتلالُ بقدرِ انشِغالِها بمنشوراتِكَ على “فيسبوك” و”تويتر”. إذا ضغطتَ زرَّ “أعجبني” على منشورٍ ينتقدُ السُّلطةَ، فقد تجِدُ نفسكَ في جلسةِ تحقيقٍ بتُهمةِ تهدِيدِ الأمنِ القوميِّ بـ”إعجاب”!.
٤. الأمنُ الوطنيُّ:
إذا رأيت مهرجاناً ترفرفُ فيهِ الأعلامُ ويُصدَحُ بالنَّشيدِ الوطنيِّ، فاعلم أنَّ الأمن الوطنيَّ كانَ هناك… لضبطِ إيقاعِ رفعِ الأعلامِ وتنظيمِ صُفوفِ الراقصينَ على المسرحِ، أمَّا المُقاومةُ؟ فمُهِمَّتُها تقتصرُ على الشِّعاراتِ!.
٥. الأمنُ الوقائيُّ:
اسمهُ يُوحي بالحمايةِ، لكن حقيقتُهُ أشبهُ بـ”أمنٍ نفسيٍّ” ضدَّ قلقِ المُواطنينَ وأسئلتهمُ المُزعجةِ، مثل: “إلى متى؟ وأينَ أنتم؟ ولماذا أنتُم هُنا أصلاً؟”.
٦. أمنُ الرِّئاسةِ:
مُهِمَّتُهُ الوحيدةُ والأبديَّةُ حراسةُ الكُرسيِّ… أقصِدُ العَرشَ الرِّئاسيَّ الذي أصبحَ قطعةً أثريَّةً مَحميَّةً دُوليّاً! حتى لو اهتزَّت الأرضُ، يبقى الكُرسيُّ ثابِتاً لا يَهتزُّ!.
٧. الأمنُ العامُّ:
الماكينةُ الأسرعُ في البلادِ! لا أحدَ يتفوَّقُ على سُرعةِ إصدارهم بياناتِ الشَّجبِ والاستنكارِ التي غالباً ما تبدأُ بجُملةٍ؛ “نستنكرُ بشدَّةٍ وندعو المُجتمعَ الدَّوليَّ…” وتنتهي بلا شيءٍ يُذكرُ!.
٨. أمنُ الحُدودِ:
دَورُهُ حَيويٌّ في تأمينِ المعابرِ، ليسَ من منظومةِ الاحتلالِ طبعاً، بل من المُواطنينَ أنفُسِهم الذينَ يُحاولونَ “الفرارَ” من جحيمِ الحياةِ اليوميَّةِ!.
٩. الارتباطُ العسكريُّ والمدنيُّ:
وكأنَّنا في ورشةِ نجارةٍ؛ ربطٌ وفكٌّ وترتيباتٌ لا تنتهي، مع جلساتِ قهوةٍ أُسبوعيَّةٍ مع ضُبّاطِ منظومةِ الاحتلالِ.. وأحياناً جلساتُ تصويرٍ تذكاريَّةٌ!.
١٠. حمايةُ المُؤسَّساتِ:
في بلادٍ تنهارُ فيها الأرواحُ، يبقى الأهمُّ؛ حمايةُ المكاتبِ والكراسيِّ والمُكيِّفاتِ، هل تجرؤُ على وضعِ قدمكَ على الطاولةِ من دون تصريحٍ؟ حذارِ!.
١١. الأمنُ السِّرِّيُّ الخاصُّ:
هذا الجهازُ أُسطوريٌّ لدرجةِ أنَّ أفرادَهُ لا يعلمونَ أنَّهُم جُزءٌ منهُ! جهازٌ إذا تحدَّثتَ عنهُ تُتَّهَمُ بالخيالِ، وإذا أنكرتهُ وجدتهُ خلفكَ!.
مع كُلِّ هذهِ الجُيوشِ الأمنيَّةِ، يمُرُّ الجيبُ التّابِعُ لمنظومةِ الاحتلالِ، وتُلوِّحُ المُجنَّدةُ الشَّقراءُ بابتسامةٍ، فتتبدَّدُ كُلُّ “الأجهزةِ” في لحظاتٍ، كما يتبخَّرُ الضُّبابُ عند شُروقِ الشَّمسِ!.
ينظُرُ المُواطنُ ويتساءلُ؛ “لماذا كُلُّ هذهِ الأجهزةِ؟ لمن تعملُ؟ ومتى تتحرَّكُ؟” بصراحةٍ، نحنُ بحاجةٍ إلى جهازٍ واحدٍ فقط؛ جهازٍ عبقريٍّ، فعّالٍ، ومُخلصٍ “جهازُ البحثِ عن فائدةِ هذهِ الأجهزةِ”.
وإن أمكن، مُلحَقٌ بهِ قسمٌ خاصٌّ لتعليمهم فُنونَ الشَّجاعةِ الافتراضيَّةِ، على الأقلِّ في التَّعليقاتِ!.
في وطنٍ تحميهِ البياناتُ والشِّعاراتُ، يُصبحُ الأمنُ الحقيقيُّ… مُجرَّدَ طُرفةٍ في جلساتِ الحديثِ! وهكذا، يبقى المشهدُ كما هو.
منظومةُ احتلالٍ تتجوَّلُ بحُرِّيَّةٍ، ومنظومةٌ أمنيَّةٌ تُتقِنُ فنَّ التَّبخُّرِ، وشعبٌ يتنفَّسُ الشِّعاراتِ ويعيشُ في زحامِ بياناتِ الشَّجبِ والاستنكارِ.
سنواتٌ تمرُّ، والكُرسيُّ ثابتٌ، والكلماتُ تزدادُ فراغاً، والوُجوهُ تتبدَّلُ، لكنَّ العصا تبقى في يدِ الجلّادِ نفسه!.
في وطنٍ تُصبِحُ فيهِ الوطنيَّةُ حفلةً، والمُقاومةُ تُهمةً، والشَّجاعةُ منشوراً على “فيسبوك”، لم يَعُدِ السُّؤالُ “كيفَ تحكُمُنا هذهِ العصابةُ؟” بل “كيفَ قبلنا أن تحكمنا؟”.
ربما لم يَعُدِ الاحتلالُ بحاجةٍ إلى طائراتٍ وصواريخَ… يكفيهِ أن يجلسَ ويُراقبَ، بينما نُصفِّقُ للجلّادِ ونلعنُ الضَّحيَّةَ!.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=84242