العودة إلى المخيمات: معركة الكرامة والهوية في وجه التهجير
رام الله – الشاهد| خط القيادي الوطني الفلسطيني عمر عساف مقالاً حول جريمة الاحتلال شمال الضفة الغربية والمتواصلة منذ 3 أشهر، والتي أدت إلى تدمير آلاف المنازل في جنين وطولكرم ومخيم نور شمس وتهجير سكانها، وتقاعس السلطة عن تقديم الغوث لتلك الأسر، وفيما يلي نص المقال.
ما يحدث في شمال الضفة الغربية ليس مجرد تهجير جديد، بل محاولة خطيرة لنزع هوية وطنية، وكيّ وعي جمعي مرتبط بالمكان والذاكرة والتاريخ، وقتل الشهود الأحياء على جريمة العصر. إن تهجير عشرات الآلاف من سكان مخيم جنين ومخيمي طولكرم ونور شمس ليس نتيجة جانبية لعدوان، بل فصل متقدم من مخطط سياسي طويل النفس، يُدار وفقًا للفرص والظروف المتاحة، ويستهدف تفريغ المخيمات كرموز حية لقضية اللاجئين التي لم تُمحَ من الذاكرة رغم مرور ثلاثة أرباع القرن، وتفكيك سردية حق العودة وفق القرار 194، خطوة خطوة.
ما يقارب خمسين ألف لاجئ دُفعوا قسرًا خارج بيوتهم، ليس فقط من داخل المخيمات، بل حتى من محيطها، ليُحوَّلوا إلى حالة طارئة على هامش المدن المجاورة، مشتتين بين القرى ومراكز الإيواء، دون أي ضمانة للعودة.
الإيواء المؤقت بات عبئًا ثقيلًا على مراكز الإيواء والمستضيفين، ويوشك أن يتحول إلى مأزق دائم وأزمة متعددة الأبعاد. بين من لجأ إلى أقارب، ومن أُسكن في مدارس ومساجد، ومن استأجر شقة لأسابيع بتمويل محدود، تنقضي المهلة وتجفّ موارد تغطية الإقامة وتنعدم الخيارات، ويُترك المهجّرون لمصير مجهول.
ومع توقف معظم أشكال الدعم الغذائي التي توفرت في الأسابيع الماضية وخلال رمضان، سواء كانت بتمويل خارجي أو من خلال المبادرات المحلية والتكيات الأهلية، يغدو الفقر والجوع سِمة ملازمة لمشهد التهجير، لا نتيجة عرضية له.
المساعدات العاجلة التي قُدمت في بداية الأزمة لم تُجدَّد، واحتياجات الإيواء الأساسية من فراش وأغطية لم تُوزَّع إلا مرة واحدة، في ظل غياب تام لأي خطة استجابة وطنية. أما على صعيد الصحة، فقد أُخرج المهجّرون من التغطية الإلزامية التي تتحملها الأونروا، ليُزجّ بهم في دوائر الخدمات الحكومية المثقلة أصلًا، وسط مخاوف حقيقية من خصخصة تدريجية لمسؤولية اللاجئين، تمهيدًا لتصفية حقوقهم وقضيتهم التاريخية.
وفي الوقت الذي تتساقط فيه أشكال الحماية الدولية والأهلية، تلوذ السلطة الفلسطينية بالصمت، متنصّلة من أي التزامات إغاثية أو وطنية تجاه هذه الكارثة، دون خطة طوارئ، أو موقف سياسي يرقى إلى حجم الحدث. وكأن تهجير آلاف اللاجئين تفصيل هامشي، لا يمسّ جوهر القضية، ولا يستدعي استنفارًا وطنيًا شاملًا.
الواقع يدفع اليوم باللاجئين نحو أحد ثلاثة خيارات: الإقامة في كرافانات أو خيم خارج المخيمات مقابل ما يُشاع من تعهدات بعدم العودة إليها، أو محاولة تمديد الإيجارات المؤقتة وسط عجز مالي خانق ونقص في الإغاثة والطعام، أو العودة إلى المخيمات رغم الدمار، باعتبارها الخيار الوطني الذي يعيد القضية إلى مسارها الطبيعي. هذا الخيار، رغم صعوبته، هو الوحيد القادر على مواجهة المشروع السياسي للتهجير. فالعودة إلى المخيم ليست عودة إلى الركام والدمار وانقطاع الماء والكهرباء، بل إلى المكان الذي يحتضن الطفولة والتاريخ والحياة الاجتماعية والهوية النضالية، المرتبطة بالحق الأصيل في العودة إلى الديار الأصلية، مهما تكن الظروف.
ما جرى للتجمعات البدوية في الضفة الغربية خلال السنوات الأخيرة يكشف مآلات التهجير الصامت، حيث جرى اقتلاع أكثر من 33 تجمعًا بدويًا قسرًا، ولم يعد أحد إلى أرضه حتى اليوم. الرسالة واضحة: التهجير الذي لا يُواجَه، يتحوّل إلى واقع دائم. وما يُخطط للمخيمات اليوم ليس سوى إعادة إنتاج لنفس النموذج، ولكن على نطاق أوسع، وأبعاد أشد خطورة، لأن المستهدف ليس الجغرافيا فقط، بل الرواية كلها وشهودها الأحياء من أبناء النكبة المستمرة.
المخيم ليس مجرد أبنية من إسمنت وصفيح، بل هو خندق في معركة الذاكرة والهوية والحق. وكل محاولة لإزاحته من الجغرافيا هي في جوهرها محاولة لإزاحته من التاريخ، وتصفية تمسّك الشعب الفلسطيني بحقه في العودة. ولذلك، فإن خوض معركة العودة إلى المخيمات ليس ترفًا إنسانيًا، بل واجب وطني، ومسؤولية تاريخية، واختبار حاسم لكل من يدّعي تمثيل هذا الشعب، ولكل من ينتمي له.
العودة إلى المخيمات، بكل ما تحمله من ألم وتحديات، هي أول الحقول التي يجب أن يُزرع فيها الصمود، وهي الجدار الأول في وجه محاولة اقتلاع فكرة اللاجئ من الوعي الجمعي. هذه ليست معركة سكان المخيمات فقط، بل معركة كل فلسطيني. ومن لا يدافع اليوم عن المخيم، قد يفقد غدًا ليس فقط حقه في العودة، بل حتى حقه في البقاء.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=86417