المجلس المركزي بين المهمة الوطنية والإستخدام

المجلس المركزي بين المهمة الوطنية والإستخدام

رام الله – الشاهد| كتب عمر عساف.. في لحظة وطنية مفصلية يتعرض فيها الشعب الفلسطيني لأبشع أشكال الجرائم من الإبادة والتجويع والتهجير، وتتعاظم التحديات الوجودية التي تهدد ما تبقى من ثوابت القضية، يُعقد المجلس المركزي لا بوصفه هيئة قيادية عليا لمنظمة التحرير بل كأداة في يد السلطة المتنفذة لتكريس مزيدٍ من التفرد، وتغليف اللاشرعية بغلاف مؤسساتي أجوف.

يأتي هذا الإنعقاد، لا كضرورة وحاجة وطنية واستجابة لمتطلبات اللحظة ولا لمواجهة المخاطر المحدقة. بل تحت سقف الإملاءات، بعيداً عن إرادة الشعب وتطلعاته. ومن هنا، يصبح لزاماً طرح السؤال الجوهري: هل يشكل هذا المجلس اطاراً وطنياً جامعاً يمثل الشعب ونضاله؟ أم تحوّل إلى شاهد زور على مواصلة تراجع وانهيار المشروع الوطني، وتفريغ مؤسساته من مضمونها التحرري والتمثيلي؟؟

عودة الى البدايات :
حين تأسست أو شكلت منظمة التحرير الفلسطينية كان رئيسها قد شكل المجلس الوطني، وكلف الرئيس بتشكيل اللجنة التنفيذية، يعين أعضاءها ويمكنه إقالتهم وقت يشاء، إلى أن تمرد الأعضاء على الرئيس واضطر بعد هزيمة حزيران 1967 إلى الإستقالة وخلال المرحلة الإنتقالية التالية تم بناء منظمة التحرير وفق قاعدة القوى والفصائل المقاتلة التي هيمنت على المنظمة وهيئاتها مبقية الأحزاب خارج المنظمة إلا من خلال فصائل المقاومة المسلحة، وساد نظام الكوتا والمحاصصة حتى في الاتحادات الشعبية، التي عُدت مكوناً رئيساً في عضوية المجلس الوطني والأمر لم يختلف في الشخصيات المستقلة فتحت مسمى الشخصيات المستقلة دخل أعضاء لجنة مركزية في حركة فتح إلى هيئات المنظمة ولجنتها التنفيذية.
‏الحصيلة التي غطت على غياب الديمقراطية الحقيقية هي المقاومة المسلحة والتحديات التي واجهتها وسادت مقولة ” ديمقراطية غابة البنادق”
مولود مشوه يغتال أباه :
أدت التطورات في مرحلة معينة إلى استحداث هيئة وسيطة هي “المجلس المركزي” بعد أن أصبح عدد المجلس الوطني بضع مئات وحتى لا تنفرد اللجنة التنفيذية بالقرار الوطني في ظل التحديات الكبرى التي تواجه المنظمة، وحين شكل المجلس المركزي عام 1973 كان عدد وأعضائه 29 عضواً، لكن هذا العدد قفز إلى الضعف خلال عقد ونيف ليصل 63 في وقت لاحق إلى ما بين 160 – 180 ، وفي الواقع العملي يقوم التشكيل على ترضيات بين قادة الفصائل وغالباً ما يخضع المجلس لإرادة القوة المهيمنة وهي حركة “فتح ” التي تقدم أسماء معظم المستقلين الذين يدينون بالولاء ليس لها وحسب ولكن لقيادتها، وهكذا في مرحلة ما وفي دورته الأخيرة 2018 فوض المجلس الوطني جميع صلاحياته إلى المجلس المركزي تحت ذريعة صعوبة انعقاده وبذلك استولى المجلس المركزي جميع الصلاحيات التي ينص عليها النظام الداخلي للمنظمة وتم تسويغ هذا القرار بأنه يهدف إلى : “تفعيل دور المنظمة وتطوير الأداء لمواجهة التحديات في هذه المرحلة “، ورغم اعتقاد البعض بعدم دستورية ولا قانونية هذا القرار، لم يحل ذلك دون تنفيذ ما ترتب عليه خصوصاً انتخاب اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
تعميق التفرد والدكتاتورية :
‏وفي الحقيقة أن الهدف الرئيسي من هكذا قرار هو أحكام قبضة القيادة المتنفذة وغير الشرعية على مؤسسات المنظمة، وتعزيز نهج التفرد والدكتاتورية التي يمارسها ومازال رئيس السلطة ورئيس اللجنة التنفيذية حيث همش خلال العقدين الماضيين جميع الهيئات التشريعية والقضائية والتنظيمية لصالح حكم الفرد، الذي يفتقد لأية شرعية، حيث أعاد تشكيل المجلس المركزي ليغدو اداة طيعة في يده، فاسقط عضوية البعض وأضيف آخرون وفق معيار الولاء الشخصي لعباس ونهجه فأصبح النصاب العددي نصاباً ميكانيكياً اوتوماتيكياً لإتخاذ أي قرار يريده الرئيس، وأصبح أي قرار مهما كان في يد الرئيس ومجموعته، وأكثر من ذلك لم تعد وهذا يعني أن قرارات المجلس المركزي ملزمة للرئيس وليست مطروحة للتنفيذ إلا بالقدر الذي يراه الرئيس ضرورياً، فقد سبق ان اتخذ المجلس المركزي والمجلس الوطني قرارات عدة بالتنصل من التزامات اوسلو بعد ان اجتاحت إسرائيل الضفة ودمرت كل أسس أوسلو وضربت عرض الحائط بكل نصوصه، وكلفت الرئيس والتنفيذية بتطبيقها لكنها وضعت في الأدراج، وكذلك الأمر في قرارات اللجنة التنفيذية التي اتخذ جملة من القرارات تحت ذات العنوان، وظلت دون تنفيذ، وتحولت اللجنة التنفيذية إلى هيئة استشارية لا تتخذ قرارات بل تقدم توصيات للرئيس ويتصرف هو فيها لا اكثر ولا اقل.
ضرورة وطنية ام إملاءات خارجية :
‏تنعقد خلال الأيام القادمة دورة المجلس المركزي الفلسطيني في دورة جاءت متأخره عاما ونصف العام بعد العدوان، و الإبادة الجماعية والتجويع والتدمير الذي يتعرض له قطاع غزة، فقد كان الموقف الرسمي اتجاه الطوفان والإبادة التي تبعتته موقفاً مناوئاً للمقاومة وقواها، وحملها مسؤولية الإبادة في كل تصريحات الرئيس المتكررة، والهيئات الرسمية، وآخرها البيان الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني خلال آذار الماضي الذي حمل المقاومة مسؤولية ما يجري في قطاع غزة، وفي هذا كله تعميق للفحوة بين الموقف الرسمي وموقف الشارع الفلسطيني، حيث المزاج الشعبي يلتف حول المقاومة وينبذ مواقف وسياسات السلطة والمجالس المركزية، تنعقد هذه الدورة كما عدا معروفاً ليس استجابة لحاجة وضرورة وطنية فلسطينية أو لهدف وحدوي لأنهاء الإنقسام بتطبيق اتفاق بكين وغيره من اتفاقات المصالحة، أو لمواجهة التحديات والمخاطر والمؤامرات التي تنتصب أمام الشعب الفلسطيني، من مشاريع التهجير التي يطرحها ترامب ونتنياهو، ومحاولة تصفية وكالة الغوث الدولية ( الأونروا ) وزيادة عدد المستوطنين إلى 900 الف مستوطن وتدنيس المقدسات وطرح قانون القومية، هذه المخاطر والمهمات ليست على جدول أعمال المركزي مع انها كانت ومازالت تتطلب تحركاً وطنياً وشعبياً ورسمياً، كخطوة أولى نحو تحرك أوسع إقليمياً وعربياً ودولياً، هناك تقصير فادح وفاضح في التصدي لهذه المخاطر، بل أكثر من ذلك فإن الدور الذي تقوم به السلطة وأجهزتها الأمنية في قمع تحركات الإسناد لغزة والتي توجت بما سمي بحملة ” حماية وطن ” التي كانت نتيجتها اعتقال المئات وقتل العشرات وآلتنكيل بالمعتقلين من المقاومين والمعارضين بما يمس قيم وأخلاق شعبنا وتراثه النضالي .
خضوع للإملاءات لا مواجهة التحديات :
غداً واضحاً أن اجتماع المركزي ليس حاجة فلسطينية لتعزيز الجبهة الداخلية بما في ذلك التحرك على الصعيد الدولي أو لتنفيذ الاتفاقيات الاتفاقات الموقعة وآخرها بكين ، وليس لمراجعة المسار والقرارات السابقة ما طبق منها والعوائق التي حالت دون تطبيقها ، أو محاسبة اللجنة التنفيذية على أدائها أو التحضير لاجتماع المجلس الوطني الفلسطيني المغيب ، ووضع استراتيجيات مواجهة للعدو لكنه ينعقد رضوخا لضغوط عربية في القمة الأخيرة آذار 2025 ، حيث التزم عباس فيها بحل مشاكل فتح الداخلية عبر المصالحة بإعادة المفصولين، وتعيين نائب له في رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية.
التي تحولت من إطار وطني جامع إلى كيان شكلي مخطوف، يتم استخدامه كغطاء لممارسات لا تمت بصلة لتاريخها ومشروعها التحرري، ما يستدعي وقفة وطنية جادة لإعادة تعريف التمثيل الوطني وتجديد الشرعية من خلال انتخابات كما آن أوان لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس جديدة: تمثيل شعبي حقيقي، وحدة نضالية تتجاوز الانقسام، ومؤسسات ديمقراطية تستمد شرعيتها من الشعب لا من الأوامر الفوقية أو الخضوع للإرادات الخارجية والإقليمية.
‏ ليس في هذا السياق ينعقد المجلس لكنه ينعقد بعيداً عن القضايا الوطنية وهموم الشعب والتحديات والمخاطر الراهنة، فكيف ولماذا سيعقد ؟؟ انه يعقد تفريطاً بمقولة تم اجترارها عبر سنين مضت، بشأن القرار الوطني الفلسطيني المستقل !! فهو مستقل فعلا عن الشعب وإرادته وهمه ومستقل عن المقاومة وعن تحديات ومخاطر الإستيطان ومستقل عن القدس ومستقل عن كل ما له صلة بالقضية الفلسطينية، لكنه خاضع لإملاء الجوار العربي، ورغبات الحكام المتخاذلين في النظام الرسمي العربي، وهو خضوع لمن يدفع ولمن يحمي ولمن يوفر الغطاء حتى لو كان غطاء غير شرعي، وهو رضوخ لضغوط وإرادة المحتلين والغزاة.

إن المجلس المركزي الذي ينعقد ينتابه العور من أكثر من زاوية ولعل أولها كما ورد آنفاً أنه لم يتصد ولن يتصدى للتحديات والمخاطر والمؤامرات، لكنه ينعقد ويستخدم لوظائف ولأهداف أخرى وهو ضمان استمرار ومواصلة اللا شرعية في الحالة الفلسطينية، بعيداً عن الشرعية الثورية أو الانتخابية أو التوافقية، فالسيد عباس يغتصب السلطة منذ اكثر من عقد ونصف دون أي من هذه الشرعيات وهناك من يريد تعميق هذا النهج، نهج التنازلات والاستقواء بالأجنبي على الشعب والخضوع لإرادة الأعداء والأخطر من كل هذا هو التوجه لتعميق الدور الأمني للسلطة والسعي لتحويلها الى سلطة شبيهة بجيش لبنان الجنوبي وبالتالي شراكة الإحتلال واستخدامها اداة ويداُ “فلسطينية” لمواجهة قوى المقاومة والتساوق مع التصنيف الإمبريالي لها كقوى ارهابية ينبغي اجتثاثها، ولعل ما جرى في جنين قبل بضعة اشهر مقدمة لهذا التوجه وتعميمه في الساحة الفلسطينية كلها بما فيها قطاع غزة وهي وصفة جاهزة للذهاب الى حرب اهلية عكس ماهو مطلوب شعبياً ووطنياً وهو تحقيق الشراكة الوطنية مع قوى المقاومة والتوجه نحو العالم بخطاب موحد يجمع عليه الشعب، كما يشوبه العور ثانياً باعتباره يستحدث منصباً لا ينص عليه النظام الداخلي أو الأساسي لمنظمة التحرير، وهو “نائب الرئيس” واية هيئة هي التي ستنتخبه ويأتيه العور من ان هذا المجلس في تشكيله غير شرعي فالمجلس الوطني، قبل المركزي يجب أن تنتهي عضويته عند انعقاد دورته، فما بالك فيما يتفرع عنه وتم تشكيله دون أية معايير ودون توافق وطني بعيداً عن إرادة الشعب.
الجميع تحت الاختبار :
‏إن هذا كله يجعل من هذه الجلسة بمثابة سقوط لورقة التوت التي يحاول الفريق الذي يغتصب السلطة ستر عورته بها، وهذا يعني أن كل ما له علاقة بالمجلس غير شرعي، تشكيله، وطريقة عقدة وجدول أعماله والنتائج المترتبة عليه، وفي التقدير أن هذا الإنعقاد ليس اختباراً فقط لفريق السلطة والقيادة المتنفذه، فقد إدار ظهره للشعب وتعمقت عزلته أكثر فأكثر، لكنه اختبار لكل مكونات النظام السياسي الفلسطيني، فأي فصيل او حزب او طرف فلسطيني يقف اليوم امام اختبار حقيقي، بين مصالح الشعب وحقوقه ومواجهة التحديات، او توفير غطاء رسمي وسياسي لاجراء غير قانوني وغير شرعي، وسيكون مساءلا ليس فقط امام جمهوره، واعضائه، ولكن امام الشعب الذي ينزع الشرعية او ما تبقى منها، عن كل من يشارك في توفير الغطاء لنهج يتعارض مع مصالح الشعب وهمومه .
خاتمة :
ما يجري ليس مجرد جلسة تنظيمية، بل خطوة إضافية في مسار تقويض ما تبقى من شرعية وطنية جامعة فإنعقاد المجلس المركزي على هذا النحو، دون توافق، وبعيداً عن هموم الشعب، وتحول قراراته إلى أدوات تفصيلية تخدم سلطة الفرد لا مصالح الجماعة، يجعل من كل مشارك في هذه المسرحية شريكاً في تكريس الإنقسام، وتزييف الإرادة الوطنية.
لقد آن الأوان لنزع الغطاء عن هذا النموذج المنهار من التمثيل وكل من يوفر غطاءً سياسياً لهذه المهزلة ويدير ظهره لاستعادة القرار الوطني إلى أصحابه الحقيقيين: الشعب الفلسطيني بكل مكوناته، داخل الوطن وفي المنافي، ممن يملكون وحدهم حق انتخاب قيادتهم، وتحديد أولوياتهم، ورسم طريقهم نحو الحرية.

وما بُني على باطل… لا يُنتج إلا باطلاً.

إغلاق