عباس.. خطاب الأزمة أم أزمة الخطاب؟
رام الله – الشاهد| كتب ثائر أبو عياش.. في سياق سياسي فلسطيني بالغ التعقيد، وفي لحظة مفصلية عقب معركة “طوفان الأقصى” التي شكلت تحوّلاً جذرياً في علاقة الفصائل الفلسطينية مع الاحتلال، وأعادت القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، جاء خطاب الرئيس محمود عباس في المجلس المركزي الفلسطيني يوم 23 أبريل 2025 ليزيد من تعقيد المشهد الداخلي، ويفتح تساؤلات حول أولويات السلطة، وجدوى الخطاب السياسي السائد، ومدى اقترابه من طموحات الشعب الفلسطيني وتطلعاته في ظل حرب إبادة مستمرة على قطاع غزة.
أبرز ما في خطاب الرئيس عباس لم يكن فقط ما قيل، بل أيضاً ما مثله من انكشاف للمأزق الذي تعيشه القيادة الفلسطينية التقليدية. ففي حين افتتح عباس كلمته بالتأكيد على “أولوية وقف حرب الإبادة في غزة”، سرعان ما انتقل إلى مهاجمة حركة حماس بعبارات قاسية، وصلت إلى حدّ وصف قادتها بـ”أولاد الكلب”، مطالباً إياها بتسليم الأسرى الإسرائيليين لسد الذرائع التي تستخدمها إسرائيل لتبرير عدوانها.
هذا الخطاب، رغم تطرقه لقضايا جوهرية مثل وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية ووقف الاستيطان، وإطلاق عملية سياسية جادة، إلا أنه في جوهره شكّل هجوماً على فصيل فلسطيني رئيسي، يشكّل اليوم القوة العسكرية والسياسية الأكثر حضوراً في قطاع غزة. وهو بذلك، بحسب مراقبين، لم يسعَ إلى التهدئة أو ترميم الانقسام، بل بدا تعزيزاً لخطاب الانقسام والانفصال السياسي بين الضفة الغربية وغزة.
ما يزيد من خطورة هذا الخطاب هو التوقيت الحرج الذي جاء فيه، حيث تمر القضية الفلسطينية بمرحلة غير مسبوقة من التهديدات والتحديات، على المستويين الداخلي والخارجي. فالحرب على غزة، وما يرافقها من دمار وتهجير، تتطلب توحيد الصفوف لا تفكيكها، والانفتاح على قوى المقاومة بدلاً من تقويضها وتشويهها.
تزداد حدة النقد لهذا الخطاب حين نضعه في سياق مقاطعة قوى رئيسية في الساحة الفلسطينية للمجلس المركزي، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، والتي اعتبرت أن مؤسسات منظمة التحرير فقدت شرعيتها التمثيلية نتيجة التفرد بالقرار وغياب التوافق الوطني.
كما جاءت مقاطعة هذه الفصائل مترافقة مع حراكات شعبية، وشخصيات مستقلة نادت بضرورة إعطاء الأولوية القصوى لوقف العدوان على غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية، وتطبيق اتفاق “بكين” الذي نص على تشكيل حكومة وفاق وطني، وإعادة بناء البيت السياسي الفلسطيني. في هذا السياق، يظهر خطاب عباس كما لو أنه تغافل عن هذه المبادرات الوطنية الجامعة، وفضّل الاستمرار في نهج الإقصاء والتخوين.
وتُظهر هذه المقاطعة المتزايدة أن هناك فجوة متزايدة بين القيادة الرسمية ومكونات المجتمع السياسي والمدني، مما يُضعف من قدرة المؤسسات الرسمية على تمثيل الشارع الفلسطيني والتفاعل مع تطلعاته.
ما يلفت الانتباه في الخطاب هو التناقض بين الدعوة إلى وقف الحرب وحقن دماء الفلسطينيين، وبين التحريض ضد فصيل فلسطيني آخر يواجه ذات العدوان الإسرائيلي. فقد بدا وكأن عباس يحمّل حماس مسؤولية استمرار الحرب، متجاهلاً السياق الأوسع لعدوان الاحتلال، الذي لم يتوقف يوماً عن قصف المدنيين وتدمير البنى التحتية بغزة، سواء وُجدت حماس أم لا.
الأكثر إشكالية أن هذا الطرح يتقاطع في بعض جوانبه مع السردية الإسرائيلية التي تسعى لتبرير جرائمها عبر تسليط الضوء على “أسرى إسرائيليين” في غزة، متجاهلة آلاف الأسرى الفلسطينيين، ومعاناة مليوني فلسطيني محاصرين منذ أكثر من 15 عاماً.
وفي هذا التوقيت الحرج، يصبح ترديد مثل هذه الروايات خطراً سياسياً وأخلاقياً، لما تحمله من دلالات على تغييب رواية الضحية الفلسطينية، وتبني مضامين يُمكن أن تُفهم كمشاركة في إنتاج خطاب الاحتلال نفسه.
في خضمّ دعوات لتشكيل حكومة وحدة وطنية كخطوة أساسية لاستعادة الثقة الشعبية وإعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، جاء خطاب عباس معاكساً تماماً لهذه الروح. فقد عزز الانطباع السائد بأن القيادة الحالية للسلطة تسعى للحفاظ على الوضع القائم، أكثر من سعيها لتحقيق توافق وطني حقيقي.
ورغم حديث عباس عن ضرورة تحقيق السلام وفق الشرعية الدولية، فإن هذه الدعوة فقدت الكثير من مصداقيتها في نظر قطاع واسع من الفلسطينيين، بعد عقود من المراوغة الإسرائيلية والتوسع الاستيطاني الذي نخر إمكانية إقامة دولة فلسطينية متصلة وقابلة للحياة.
اللافت في هذه المرحلة أن الشارع الفلسطيني، خصوصاً بعد معركة “طوفان الأقصى”، بات أكثر جرأة في مساءلة القيادة، وأقل صبراً على الخطابات التقليدية. الحراكات الشعبية التي بدأت تتشكل في الضفة الغربية والشتات، وما رُفع من شعارات تطالب بإعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية، تشير إلى أن الفلسطينيين باتوا يبحثون عن تمثيل سياسي جديد يُعبّر عن آلامهم وآمالهم.
إن خطاب محمود عباس الأخير لم يُشكّل لحظة مراجعة سياسية أو مصالحة وطنية، بل كان استكمالاً لنهج الإقصاء وتحميل الآخر مسؤولية الفشل، في وقت أحوج ما يكون فيه الفلسطينيون إلى خطاب وحدوي يعترف بجميع المكونات السياسية، ويضع مصلحة الشعب الفلسطيني فوق الاعتبارات الفئوية.
في ظل استمرار الحرب على غزة، واستشراس المشروع الاستيطاني في الضفة، تبدو أولوية الفلسطينيين واضحة: وقف الإبادة، كسر الحصار، إعادة بناء المشروع الوطني على قاعدة التعددية والشراكة، لا على التفرد والإقصاء. خطاب عباس، للأسف، لم يكن في هذا الاتجاه.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=87216