اجتماع المجلس المركزي من منظار جيوسياسي

رام الله – الشاهد| كتب أحمد عيسى.. في محاولته قراءة مخرجات المجلس المركزي من منظار جيوسياسي، سيطبّق هذا المقال نموذجاً تحليلياً كان قد وظّفه الخبير الجيوسياسي، جورج فريدمان، في تحليله قرارات الرئيس ترمب (في 2 إبريل/ نيسان الماضي) المتعلّقة بالتعرفة الجمركية الهادفة إلى إعادة أميركا “دولةً عظيمةً من جديد”، بما يؤهّلها لضمان استمرار هيمنتها على النظام العالمي، وذلك عبر مقال له بعنوان “التعرفة الجمركية من منظور جيوسياسي”، ونشر في موقع المستقبل الجيوسياسي بتاريخ 7/4/2025.
اعتمد نموذج فريدمان التحليلي على مبدأين يجدرعدم إغفالهما في التحليل: يتعلق الأول بالضروات الجيوسياسية، والثاني يدور حول وجوب التمييز بين الضرورات الجيوسياسية والهندسة الجيوسياسية. وعرّف فريدمان الضرورات الجيوسياسية بأنها الضرورات التي تجبر الدول على التصرّف بطرائق معينة، أمّا الهندسة الجيوسياسية فعرّفها بأنها عملية تتطلّب موازنة السياسة الداخلية للدولة بين أولئك الذين يرحّبون بالواقع الجديد وأولئك الذين يعارضون. وأوضح فريدمان (في سياق تحليله) أن الضرورات الجيوسياسية في قرارات ترامب نبعت من حقيقة ما يشهده النظام العالمي من تحوّلات، أي أن النظام العالمي الذي ساد خلال القرن الماضي قد تآكل ولم تعد معايير الماضي ذات صلة بالقرارات الإستراتيجية للدول منفردة ومجتمعة، فكل ما كان مؤكّداً في الماضي أصبح الآن غير مؤكّد، الأمر الذي عنى للرئيس ترامب وفريقه أن الواقع الجيوسياسي، قبل قرارات الرئيس الخاصّة بالتعرفة الجمركية، ليس كما هو بعد هذه القرارات.
وحول الهندسة الجيوسياسية لهذه الضرورات، ذكر فريدمان أنها لم تحظ باهتمام ترامب، بل إنها تأتي لاحقاً، ويتم هندستها بناءً على نتائج المفاوضات التي ستجري وطنياً ودولياً بعد دخول قراره حيّز التنفيذ، الأمر الذي دفع فريدمان إلى القول إنها قرارات قامت على مبدأ عدم اليقين، ونصيبها من النجاح ربّما يساوي نصيبها من الفشل. وعند تناول المشهد الفلسطيني، بعد مخرجات المجلس المركزي (في دورته التي اختتمت في 25 إبريل/ نيسان الماضي) بالتحليل وفق نموذج فريدمان، فهناك ضرورة للإشارة إلى أن دورة المجلس، بما تضمّنته من مخرجات ووثائق، أبرزها خطاب الرئيس محمود عبّاس، الذي يعتبر من وثائق المجلس، كانت الخطوة الأوضح في مسار إعادة بناء نظام سياسي فلسطيني جديد، وفق الصفات التي تضمّنها الخطاب. في الواقع لا تعتبر الدورة الماضية للمجلس هي الخطوة أنشأت النظام السياسي الموعود، إذ سبقها خطوات أخرى، لعلّ أبرزها الإعلان الدستوري والقرارات المتعلّقة بالأسرى ومناهج التعليم، الأمر الذي يسمح باستنباط ملامح النظام الجديد وحصرها في، أولاً نظام يجمع ما بين النظامين السياسيَّين النافذَين في فلسطين (نظايم منظّمة التحرير والسلطة). وثانياً، نظام ينتقل فيه الثقل من الشتات الفلسطيني إلى الداخل الفلسطيني، لا سيّما فيما يخصّ منظّمة التحرير الفلسطينية وما تمثّله من نظام سياسي. ثالثاً، نظام لا مكان فيه لمن ينادي بضرورة عدم التموضع في معسكر القوة التي تسعى إلى الهيمنة على النظام العالمي الجديد. أما رابعاً، نظام يتقدّم فيه التأييد الإقليمي والدولي على صناديق الاقتراع مصدراً لاكتساب الشرعية.
هناك ضرورة جيوسياسية في إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني من منطلقات فلسطينية لا تتجاهل معطيات تحوّل الواقع الجيوسياسي دولياً وإقليمياً
ويبدو واضحاً هنا أن هذه الملامح تثير قلقاً مشروعاً على شرعية النظام الجديد، خاصّة على شرعية رئيس السلطة الفلسطينية، لا سيّما إذا تعثّر إجراء الانتخابات التشريعية بعد انتهاء الآجال المحدّدة في الإعلان الدستوري، الأمر الذي سيكون له تداعياته على الاستقرار الداخلي الفلسطيني، وهنا يبرز سؤال: كيف يمكن معالجة المخاوف وإزالة أسباب القلق؟
أمّا فيما يخصّ اللحظة الزمنية التي يجري فيها استيلاد النظام السياسي الفلسطيني، فهناك ضرورة للتوضيح أنها تجري في لحظة لا يتغيّر فيها الواقع الجيوسياسي، ويتحول فيها النظام العالمي وحسب. بل علاوة على ذلك فهي تجري في ظلّ حرب ابادة تشنّها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام ونصف العام، انتقل فيها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي برمّته من حقبة جيوسياسية إلى حقبة أخرى مختلفة تماماً، حلّت فيها جرائم الإبادة والتطهير العرقي والتهجير في محلّ الحلّ الوسط والحلول السياسية للصراع، الأمر الذي دفع بعض الفلسطينيين إلى اعتبار النظام السياسي الفلسطيني الجديد يأتي من باب الضرورات الجيوسياسية، فيما يرى آخرون أنه يأتي من باب الاستجابة للإملاءات الخارجية.
وعند هذه النقطة، يأتي دور الهندسة الجيوسياسية في التفريق بين الضرورات والإملاءات، الأمر الذي يجعل من المشروع التساؤل: هل أحسن الفلسطينيون الهندسة الجيوسياسية في قراراتهم وإجراءاتهم؟ أي هل كانت فعلاً هناك موازنة سياسية داخلية، وفقاً للتعريف المتضمّن في نموذج فريدمان التحليلي؟ أم أن الهندسة ستجري لاحقاً وفقا للنتائج؟ وهل أتت هذه القرارات والإجراءات من باب اليقين بأنها ستحقّق الأهداف الوطنية العليا للشعب الفلسطيني؟ أم أنها اتخذت من باب المراهنة؟ وهل ستوقف هذه الإجراءات الإبادة وتجبر إسرائيل على العودة إلى الحلّ الوسط ومعايير الماضي؟ وهل هناك يقين أن النظام الدولي الجديد لن يعيد ظلم الفلسطينيين؟ وهل يدرك الفلسطينيون مآلات هذه الإجراءات، ليس فقط على النظام السياسي الفلسطيني، بل على حياتهم برمّتها؟
ربّما يكون إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، حتى وإن كانت دولةً تحت الاحتلال، واعتماد مسوّدة دستورها، هو الطريقة الفضلى والأسلم لمعالجة المخاوف وإزالة أسباب القلق.
وفي شأن النظام السياسي الفلسطيني النافذ، يجادل هذا المقال أن هناك ضرورة جيوسياسية في إعادة بنائه من منطلقات فلسطينية لا تتجاهل معطيات تحوّل الواقع الجيوسياسي دولياً وإقليمياً وتداعيات هذا التحوّل على المصالح والأهداف العليا الفلسطينية، لا سيّما أن فلسطينيين يطالبون بضرورة إعادة بناء هذا النظام على أسس ديمقراطية، وكان الفلسطينيون قد طوّروا قبل أكثر من عام المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي يهدف إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية من دون المساس بوحدانية تمثيلها للشعب الفلسطيني وشرعيته. وفي الشأن ذاته، فالواقع في فلسطين يقول إن هناك ثلاثة أنظمة سياسية فلسطينية، وليس واحداً، والأهم أن هذه الأنظمة تختلف عن بعضها من حيث نوع النظام وطبيعته، ولكلّ منها مرجعيته الدستورية الناظمة لعمله، الأول تمثّله منظّمة التحرير ومرجعيته الدستورية هي الميثاق الوطني والنظام الأساس لمنظّمة التحرير، والثاني تمثله السلطة الفلسطينية ومرجعيته الدستورية القانون الأساس المعدل العام 2003، والثالث تمثّله الدولة الفلسطينية الموعودة ويُعتبر الدستور الذي نشرت منه ثلاث مسودات مرجعيته الدستورية.
في الحقيقة، اثنان من هذه الأنظمة (المنظّمة والسلطة) نافذان في الواقع الفلسطيني، وتشكّل وثائقهما الدستورية مصدر مشروعية القرارات والمراسيم الصادرة عنه، وتقتضي الضرورة هنا التأكيد أن هذَين النظامَين يواجهان تحدّيَ الفراغ الرئاسي إذا ما غادر الرئيس المشهد من دون استحداث منصب شغر الفراغ، خاصّة ما يتعلّق برئاسة السلطة الفلسطينية في ظلّ عدم وجود مجلس تشريعي، إذ جرت معالجة تحدّي فراغ شغور رئيس السلطة من خلال الإعلان الدستوري، وعالج استحداث منصب نائب رئيس المنظّمة والدولة التحدّي الثاني. وفيما جرت معالجة تحدّي الفراغ عبر الإعلان الدستوري وقرارات المجلس المركزي، إلا أن الجدل والنقاش الذي أعقب انعقاد دورة المجلس المركزي يشيران إلى أن مخرجات المجلس، وما سبقها من إجراءات، تحمل في طيّاتها قلقا ومخاوف مشروعة على شرعية النظام السياسي الفلسطيني الجديد، وعلى منسوب الاستقرار في فلسطين، وعلى علاقة الفلسطينيين بعضهم ببعض، لا سيّما فلسطينيي الشتات وفلسطيني الدولة الموعودة.
في الختام، يؤكّد هذا المقال أنه مجرّد تحليل قد يكون نصيبه من الصواب يساوي نصيبه من الخطأ، ولكنّه يأمل أن يثير الأسئلة التي تضمنها، والأسئلة التي تضمّنتها مقالات سابقة عن الجدل والنقاش الذي بدأ يتطوّر في فلسطين بعد انعقاد المجلس، وربّما يكون إعلان قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، حتى وإن كانت دولةً تحت الاحتلال، واعتماد مسوّدة دستورها، هو الطريقة الفضلى والأسلم لمعالجة المخاوف وإزالة أسباب القلق.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=87999