المجلس المركزي والانقسام السياسي.. تكريس للقطيعة ام أداة للحل

المجلس المركزي والانقسام السياسي.. تكريس للقطيعة ام أداة للحل

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني إسماعيل الريماوي مقالاً حول نتائج اجتماعات المجلس المركزي لمنظمة التحرير والتي أفرزت تعيين حسين الشيخ نائباً لرئيس السلطة والمنظمة، وسط حالة من السطوة من قبل حركة فتح وعباس والمحيطين به على القرار الفلسطيني وتهميش جميع الفصائل، وفيما يلي نص المقال.

منذ توقيع اتفاق أوسلو وما تبعه من تحولات في البنية السياسية الفلسطينية، دخلت مؤسسات منظمة التحرير، وعلى رأسها المجلس المركزي، مرحلة طويلة من التهميش ثم التوظيف السياسي، ولم يعد المجلس المركزي، كما أُريد له أن يكون، هيئة تمثيلية تضبط إيقاع القرار الوطني في ظل تعذر انعقاد المجلس الوطني، بل أصبح تدريجيًا أداة بيروقراطية تُستخدم لإضفاء شرعية شكلية على قرارات مسبقة تتخذها القيادة المتفردة بالسلطة.

إن ما يزيد من حدة هذا التشوه هو تحوّل الاجتماعات الدورية للمجلس المركزي إلى مراسم سياسية محصورة بفصيل واحد تقريبًا، يُدعى فيها من يشاء ويُستثنى منها من يشاء، في مشهد يُجسد احتكار الشرعية بدل تجديدها، ويُعيد إنتاج حالة الاستبداد، لا سيما في ظل غياب فصائل رئيسية ، ورفض قوى وطنية أخرى المشاركة في هذه الاجتماعات نتيجة فقدان الثقة والاحتجاج على مسار التهميش والتفرد.

تكمن الأزمة الحقيقية في أن هذا المجلس، الذي يُفترض به أن يعمل كصمام أمان في ظل غياب المجلس الوطني، يُستغل لتغطية قرارات مصيرية تمس المشروع الوطني بكامله، كالتنازل عن قرارات سابقة بوقف التنسيق الأمني، أو تشكيل حكومات جديدة دون توافق، أو حتى تمرير برامج اقتصادية وأمنية تخدم السلطة على حساب المقاومة ، وهذا ما يُحوّل المجلس المركزي من مظلة تشريعية إلى أداة تنفيذية بيد رأس السلطة، ويضرب بها عرض الحائط بمفهوم التمثيل الوطني الجامع.

الشرعية في السياق الفلسطيني ليست مسألة إجرائية فقط، بل هي في جوهرها مسألة إجماع وطني وتمثيل حقيقي ، وما لم تكن مؤسسة بحجم المجلس المركزي قادرة على تمثيل الطيف الوطني الواسع، فإن أي قرارات تصدر عنه ستبقى موضع طعن سياسي وشعبي، مهما كانت صياغتها القانونية، لأن الشرعية في ظل الاحتلال والانقسام لا تُختصر بنصوص النظام الداخلي، بل تُصاغ من خلال الإجماع الشعبي وتوازنات القوى الفعلية.

القيادة الرسمية، من خلال سلوكها في المجلس المركزي، لا تُعيد فقط إنتاج مؤسسات مهترئة، بل تُعمّق أزمة النظام السياسي الفلسطيني كله، والذي بات يُدار من خارج المؤسسات، وعبر قنوات خارجية أو أمنية وإدارية، بينما يتم تغييب قوى المقاومة والمجتمع المدني عن مواقع القرار، وما الاجتماعات المتكررة للمجلس المركزي سوى مشهد جديد في مسلسل تزييف الشرعية، حيث تُدار القضايا المصيرية من خلف الأبواب المغلقة، وتُفرض على الشعب قرارات لم يُستفتَ عليها ولم تُناقش في ساحات الفعل الوطني.

من المفترض أن يكون المجلس المركزي منصة لجسر الفجوة بين مكوّنات الشعب الفلسطيني، خاصة في ظل الانقسام السياسي المستمر منذ عام 2007. إلا أن ما يجري على الأرض يُشير إلى العكس تمامًا؛ إذ تحوّل المجلس إلى أحد رموز الانقسام، بل وأحيانًا إلى أداة لتثبيته وتغذيته، من خلال تجاهل القوى الوطنية والإسلامية التي لا تزال خارج إطار المنظمة أو على هامشها، وهو ما يكرّس القطيعة بدل تجاوزها.

هناك فصائل كبرى ، ورغم دورها المحوري في مشروع المقاومة، لا تجد تمثيلًا لها داخل مؤسسات المنظمة، بينما يُعقد المجلس المركزي ويتخذ قراراته بمعزل عن هذه القوى، وكأن النظام السياسي الفلسطيني قرر السير على قدم واحدة. هذا الإقصاء لا يعبّر فقط عن خلل تمثيلي، بل يشكل انحيازًا سياسيًا واضحًا لمنظور السلطة، ويُجهض أي محاولة جدية لإعادة بناء البيت الفلسطيني.

إن تكريس الانقسام داخل المؤسسة التمثيلية يحوّل المجلس المركزي إلى مؤسسة فاقدة للثقة من قطاع واسع من الشعب، ويجعل من قراراته أحادية الطابع، تُخاطب مشروع السلطة لا مشروع التحرير، وتُعبّر عن هموم رام الله وليس عن آمال المخيمات أو صوت البندقية في غزة أو جنين.

وفي الوقت الذي تتصاعد فيه المواجهة مع الاحتلال في غزة والضفة ، وفي ظل معادلات إقليمية متغيرة، يُفترض بالمجلس المركزي أن يكون حاضنة لقرارات استراتيجية تدعم مشروع المقاومة وتؤطرها وطنيًا ، لكن الواقع يُظهر غيابًا كاملًا لهذه المؤسسة عن معادلة الاشتباك، وكأن المجلس المركزي يعيش في مناخ سياسي مختلف، يتعاطى مع القضايا من منظور إداري لا من منطلق تحرري.

و في ظل حرب الإبادة الحاصلة في غزة و ما يجري في الضفة الغربية ، بقيت القرارات التي تصدر عن المركزي لا ترتقي لمستوى التحديات الميدانية، ولا تُترجم إلى إجراءات على الأرض، وهو ما يعكس انفصالًا بنيويًا بين المؤسسة المركزية وشبكة الفعل المقاوم، بل إن هذا المجلس بات يُستخدم في أحيان كثيرة لتقييد المقاومة عبر تكريس نهج التنسيق الأمني أو عبر التبرير السياسي لجمود الساحة الرسمية.

إن فراغ المجلس المركزي من دوره الوطني الحقيقي يُفسح المجال أمام الجغرافيا لتملأ المشهد: من الميدان في غزة، إلى طولكرم وجنين، إلى مخيمات الشتات، تتشكل قيادة فعلية من خارج المؤسسات، تحمل على عاتقها مشروع المواجهة، بينما تغيب المؤسسة التمثيلية أو تنشغل بتثبيت مواقعها الإدارية، وهذا ما يُعمّق الأزمة: حين تصبح المقاومة فعلًا من دون غطاء سياسي، وتتحول المؤسسة إلى كيان رمزي فاقد للوزن.

خاتمة: نحو مراجعة وطنية تعيد الاعتبار للشرعية والمشروع

في ظل الانقسام السياسي، واستمرار الاحتلال، وتآكل المؤسسات التمثيلية، لم يعد من الممكن الاستمرار في التعامل مع المجلس المركزي كأداة بيد سلطة الأمر الواقع، أو كمنصة لتمرير ما لا يملك أحد تفويضًا شعبيًا لتنفيذه، إن استمرار عقد الاجتماعات الشكلية، بمعزل عن التوافق الوطني، لا يرمم شرعية ولا يُعيد الثقة، بل يرسّخ القطيعة بين الشعب ومؤسساته، ويكرّس ازدواجية السلطة والمشروع.

إن اللحظة الوطنية تستدعي مراجعة شاملة، تبدأ بإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة، تُنهي حقبة الاحتكار، وتفتح المجال أمام كل القوى الفلسطينية للمشاركة في القرار، لا باعتبارها ضيوفًا على طاولة جاهزة، بل شركاء في صياغة المشروع الوطني من جذوره، كما تستدعي إعادة تعريف وظيفة المجلس المركزي، ليتحول من مؤسسة شكلية إلى منصة فعل وطني حقيقي، تنبض بقضايا الشعب والمقاومة، وتكون قادرة على احتضان المتغيرات لا التفرج عليها.

لا يمكن الحديث عن تحرير، أو حتى صمود، في ظل شرعيات متآكلة، ومجالس تُدار بالأمر لا بالتفويض، وفي ظل غياب الشعب عن المعادلة السياسية، والمجلس المركزي كما هو اليوم، ليس سوى عرض جانبي في مسرح أزمة الشرعية الفلسطينية ، أما استعادة دوره فلن تكون بقرارات جديدة، بل بإعادة تشكيله عبر بوابة الشعب، ومن خلال مشروع تحرري يسبق كل الحسابات الفصائلية.

إغلاق