سقوط مشروع أوسلو الحتمي
رام الله – الشاهد| كتب ربحي بشارات: إنّ الأزمة التي تعصف بالسلطة الفلسطينية اليوم ليست مجرد أزمة انتقال قيادة أو جدل داخلي حول تعيينات شكلية، بل هي أزمة وجود وشرعية ومصير، أزمة سلطة اختارت أن تُراكم فوق ركام أوسلو اتفاقيات أمنية وتنسيقات مع الاحتلال، بينما يتداعى المشروع الوطني الفلسطيني تحت سمعها وبصرها، بل وبمشاركتها الفاعلة.
حين قرر محمود عباس أن يمرر حسين الشيخ كوريث له في قيادة السلطة، لم يكن يفعل ذلك بصفته رجل دولة يستعد لتسليم الأمانة عبر صناديق الشعب، بل كزعيم جماعة مغلقة قررت أن تُبقي حكمها بالتزكية، لا بالانتخاب، بالولاء لا بالكفاءة، بالقرار الفردي لا بالمؤسسات.
لم يطلب عباس رأي المجلس الوطني الفلسطيني، ولا عقد حوارًا وطنيًا شاملاً، ولا عاد إلى شعبه في غزة أو الشتات، بل قرر من مكتبه أن يرسم مشهد ما بعده كأنّه قدر لا مفر منه، متناسيًا أن زمنه قد ولى، وأن سلطته تحكم دون غطاء شعبي أو أخلاقي.
ليس سرًا أن الشعب الفلسطيني لم يعد يرى في السلطة ممثلاً له ولا في عباس قائداً له، فمؤسسات هذه السلطة باتت تُستخدم كحصون لحماية شبكة فساد متجذّرة، تُدار بعقلية “العشيرة السياسية”، حيث تُمنح الامتيازات لا بحسب الوطنية أو الخبرة، بل بحسب درجة الطاعة والانصهار في مشروع أوسلو الذي يتآكل.
حسين الشيخ، الذي بالكاد يحظى بنسبة 2% من التأييد الشعبي وفق أحدث استطلاعات الرأي، ليس إلا رمزًا لهذه الأزمة، وأحد أبرز الوجوه التي تمثل التبعية للمنظومة الأمنية الإسرائيلية.
ولا يُخفى على أحد أن الشيخ هو المسؤول المباشر عن ملف التنسيق الأمني، تلك العبارة التي تحوّلت إلى كابوس وطني، حيث يُلاحق المقاومون، وتُفرغ السجون من العملاء ليُملأ بها أبناء المقاومة.
هذه السلطة لم تعد تحكم لأنها شرعية، بل لأنها مُعترف بها من الاحتلال، تحكم باسم شعبٍ لم ينتخبها، وبقوة أجهزة أمنية تدار بتمويل دولي، وتُستخدم في قمع المظاهرات ومصادرة حرية التعبير، بينما الاحتلال يُكمل مشروعه الاستيطاني ويقضم ما تبقى من الضفة الغربية.
لقد وصل المشروع الأوسلوي إلى نهايته الفعلية، لا لأن خصومه أسقطوه، بل لأن رجاله خانوه. الاتفاق الذي وُقّع باسم السلام تحوّل إلى غطاء للاحتلال، والمناصب التي كانت تُبرر كخطوة نحو الدولة أصبحت مواقع للفساد، تُباع فيها الأراضي ويُسكت فيها الشرفاء ويُلاحق فيها الأحرار.
عباس، الذي يرفض منذ أكثر من 15 عامًا الدعوة إلى انتخابات رئاسية، لم يعد رئيسًا بمعنى الشرعية، بل بحكم الأمر الواقع، يحكم بشكليات دستور لم يعد أحد يؤمن به، ويحتمي بتحالفات دولية تُعطيه غطاءً سياسيًا مقابل خدمات أمنية، لا مقابل تمثيل شعبي أو إنجاز وطني.
لكن لا شرعية يمكن أن تصمد أمام وعي شعبٍ يرى بأم عينيه أن مشروع “الدولة” المزعومة لم يكن إلا وهماً يُدار من المقاطعة، وأن رجال هذا المشروع، من أمثال حسين الشيخ وماجد فرج، لا يُمثلون إلا مصالحهم الشخصية وشبكاتهم الخاصة.
والمفارقة الكبرى أن كل هذه الخطوات تتم فيما تتصاعد الانتفاضة الشعبية ويُسطر المقاومون ملاحم بطولية في الضفة والقدس وغزة والشتات، بينما السلطة تزداد بعدًا عن نبض الناس.
شعب يقدّم شهداءه في جنين ونابلس وخانيونس، وسلطة تستمر في لعب دور “الوكيل الأمني” للاحتلال. شعب يهتف للمقاومة، وسلطة تحرض عليها.
هذا الانفصام التام بين السلطة وقاعدتها الشعبية لا يمكن أن يستمر، وقد بدأت مؤشرات الانفجار الشعبي تتراكم: من الإضرابات إلى العصيان، ومن حراك الأسرى إلى رفض كل أشكال التطبيع الأمني.
إنّ النهاية السياسية لعباس ورجاله لم تعد مسألة تقدير أو تكهن، بل صارت قناعة عامة، لا ينقصها سوى لحظة المفاجأة. لقد خسروا كل شيء: الشرعية، الاحترام، الرصيد الشعبي، وحتى الحلفاء الذين يسايرونهم سياسيًا لم يعودوا يثقون بقدرتهم على البقاء، فهم سلطة تُدار اليوم فقط لأن سقوطها دفعة واحدة لم يُقرر بعد، لا لأنها متماسكة، بل لأن البدائل لم تُرتب بعد. عباس الذي وعد يومًا بعدم الترشح، لم يُنجز شيئًا سوى تعزيز الفردية والتبعية والانقسام، والشيخ الذي يُهيّأ ليكون “الرئيس القادم” هو أسوأ الخيارات وأكثرها بعدًا عن إرادة الناس، ومن كان منبوذًا شعبيًا لا يمكن أن يكون زعيمًا وطنيًا، مهما حاز على الرضى الأمريكي أو التصفيق الأوروبي.
إنّ فلسطين لا يحكمها من يتلقى التعليمات من تل أبيب، بل من يقف في وجهها. فلسطين لا يُمثلها من يتبجح بلقاءات التنسيق الأمني، بل من يضع روحه على كفه ويقاتل في مخيم بلا ماء ولا كهرباء. فلسطين لا تحيا في مشاريع الدول الهزيلة، بل في أعين أطفال الشهداء ووصايا المقاومين. ومَن لا يدرك هذه الحقيقة اليوم، سيفاجأ غدًا بسقوط مدوٍّ لا يُبقي له مقعدًا ولا تاريخًا ولا حتى شفقة من شعب صابر.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=88068