حين تتحول المنابر الإعلامية إلى مكاتب فصائلية

حين تتحول المنابر الإعلامية إلى مكاتب فصائلية

رام الله – الشاهد| كتب اسماعيل الريماوي: رغم ما تشهده الساحة الفلسطينية من غزارة في المنابر الإعلامية التي ترفع لافتة الاستقلالية والحياد، إلا أن الواقع يكشف عن مفارقة قاتلة: الإعلام المستقل في جوهره لم يعد سوى امتداد للسلطة أو الفصيل، ولو تخفّى وراء خطاب مهني أنيق.

ففي اللحظة التي يكتب فيها صاحب رأي مستقل مقالا نقديًا يمس السلطة الفلسطينية أو يضع علامات استفهام حول مشروعها السياسي، تبدأ أبواب النشر في الانغلاق بصمت، وتُرفَض المواد لا لعيوب في اللغة أو ضعف في الحجة، بل لغياب “الانتماء” الفصائلي، وكأن الوطنية أصبحت مرهونة ببطاقة تنظيمية أو ولاء سياسي.

العبارة التي كثيرًا ما تتكرر بوجوه متعددة – “لست فتحاويا وتنتقد السلطة فلا تنشر مقالك عندنا” – ليست مجرد جملة عابرة، بل هي اختزال لواقع إعلامي مأزوم، يخلط بين النقد والتجريح، وبين الاستقلال والتجريم السياسي، في وقت تزداد فيه الحاجة إلى أصوات حرة قادرة على مساءلة الواقع الفلسطيني بكل ما فيه من تآكل سياسي، واحتكار للتمثيل، وتراجع في مشروعية القيادة. يصبح الكاتب أو الصحفي المستقل وكأنه دخيل على المشهد، يُحمّل مسبقًا نوايا التشويه، ويُحاكم خارج أي معيار مهني.

الأخطر من ذلك أن بعض المنصات التي تُصنَّف كمستقلة – لا سيما تلك التي تنشط في الفضاء الرقمي وتروّج لخطاب حر – تمارس رقابة ناعمة لا تقل قسوة عن قمع السلطة الرسمي. فحرية التعبير فيها مشروطة بالسقف السياسي للفريق القائم عليها، ومعيار النشر فيها ليس جودة المادة أو راهنيتها، بل مدى انسجامها مع ما لا يُقال صراحة: “لا تمسوا السلطة، ولا تزعجوا الفصيل الحاكم”. وهكذا يُختزل مفهوم “الاستقلال” إلى استقلال عن الناس لا عن السلطة، واستقلال عن النقد لا عن التبعية.

المأزق هنا ليس فقط في انسداد الأفق أمام الكاتب الحر، بل في انزلاق المشهد الإعلامي نحو بيئة طاردة للعقل النقدي، خالية من المساءلة، لا تؤمن إلا بالتطبيل أو الصمت. وحين يُمنَع المقال النقدي من النشر، لا يخسر الكاتب فقط منبرًا، بل تخسر القضية الفلسطينية فرصة للمراجعة والتصحيح وإعادة التموضع في لحظة تاريخية بالغة الخطورة.

السلطة الفلسطينية، ومعها كثير من المنابر الإعلامية، تخشى الكلمة الصادقة أكثر مما تخشى الاحتلال، لأن الاحتلال عدو خارجي معلوم، أما الكلمة الحرة فهي سؤال وجود يهدد شرعية بنيت على الوهم، واستقرارًا قائمًا على كمّ الأفواه.

إن لم يكن للإعلام دور في كشف الفساد، وفهم أسباب الانقسام، ومساءلة مركز القرار، فما قيمته؟ وإذا أصبح النقد خيانة، فمتى يكون الولاء جريمة؟

إغلاق