بين نكبة المكان واستراتيجية البقاء: ماذا تقول كفر مالك للضفة؟

رام الله – الشاهد| كتب ثائر أبو عياش.. في واحدة من أعنف الهجمات التي شهدتها الضفة الغربية منذ بداية العام، اقتحم عشرات المستوطنين المدججين بالسلاح بلدة كفر مالك شرق رام الله، أول من أمس، تحت حماية جيش الاحتلال الإسرائيلي، ما أسفر عن استشهاد ثلاثة شبان فلسطينيين وإصابة عدد آخر بجروح متفاوتة، في مشهد دموي يعكس تصاعدًا خطيرًا في عنف المستوطنين الممنهج.
الهجوم لم يكن عفويًا أو معزولًا، بل يأتي ضمن سلسلة طويلة من الاعتداءات التي تصاعدت وتيرتها بشكل لافت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تاريخ بداية العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة.
فمنذ ذلك اليوم، تحولت الضفة الغربية إلى ساحة موازية لتفريغ العقيدة الأمنية الإسرائيلية، لا سيما عبر توسيع دائرة الاستيطان والاعتداءات الميدانية التي ينفذها المستوطنون بحماية الجيش.
تؤكد المعطيات الميدانية أن الهجمات الاستيطانية لم تعد مجرد حالات فردية، بل باتت تشكل جزءًا من البنية الأمنية والسياسية لدولة الاحتلال. ففي كفر مالك، اقتحم أكثر من 100 مستوطن البلدة، أضرموا النار في عدد من المنازل والمركبات، وهاجموا الأهالي بالذخيرة الحية. وفي الوقت نفسه، كانت قوات الاحتلال تقوم بإغلاق الطرق ومنع سيارات الإسعاف من الوصول، في مشهد يعكس تكاملًا بين المستوطن والجيش.
هذا التصعيد لا يمكن فصله عن طبيعة الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يهيمن عليها اليمين المتطرف ممثلًا بوزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. هؤلاء لا يخفون رؤيتهم الواضحة: ضم الضفة الغربية بالكامل، وتفريغها من سكانها الفلسطينيين عبر القوة والترويع. وبالتالي، فإن هجمات المستوطنين تشكل تنفيذًا مباشرًا لرؤية أيديولوجية تسعى إلى فرض وقائع على الأرض، بما يتجاوز السياسات الرسمية إلى مستوى الممارسة اليومية للاحتلال.
من منظور نظريات الاستعمار الكلاسيكي والحديث، فإن ما يجري في كفر مالك وغيرها من القرى الفلسطينية هو إعادة إنتاج لنمط الاستعمار الإحلالي، حيث لا يسعى المستعمر فقط إلى السيطرة على الأرض، بل إلى طرد السكان الأصليين منها. فالهجوم لا يستهدف فقط الأرواح والممتلكات، بل يهدف إلى زعزعة الإحساس بالأمان، ودفع السكان نحو الرحيل الطوعي، تحت ضغط الخوف والعنف المستمر.
السياسات التي تقف خلف هذا العنف ليست وليدة اللحظة، بل هي تراكم لمشروع استيطاني طويل الأمد، يستغل اللحظات السياسية الإقليمية والدولية لفرض إرادة الاحتلال. فبعد السابع من أكتوبر، وجدت إسرائيل في انشغال العالم بالحرب على غزة فرصة لتسريع مشاريع الضم والاستيطان، عبر أدوات غير رسمية تتمثل بالمستوطنين الذين يؤدون دور المليشيات المسلحة.
التداعيات السياسية لهذا الهجوم ستكون ثقيلة على المستوى الداخلي الفلسطيني، إذ يضيف جرحًا جديدًا إلى جسد الضفة المثقل أصلاً بالاجتياحات والاغتيالات شبه اليومية. كما يعمّق من الانقسام بين السلطة الفلسطينية التي تبدو عاجزة، وبين الشارع الفلسطيني الذي يرى في مقاومة الاستيطان واجبًا وطنيًا متصاعدًا.
في ظل هذا الواقع، يصبح الحديث عن إستراتيجيات دفاع فعالة لحماية الضفة الغربية ضرورة وطنية وأمنية ملحّة. ويشمل ذلك:
1. إعادة تفعيل لجان الحماية الشعبية في القرى والبلدات المستهدفة.
2. إنشاء غرف طوارئ ميدانية بتنسيق مجتمعي، لتعزيز الجاهزية والاستجابة السريعة.
3. التحرك السياسي والديبلوماسي لفضح التواطؤ بين الجيش والمستوطنين على المنصات الدولية.
4. رفع ملفات جرائم المستوطنين إلى محكمة الجنايات الدولية، كمقدمة لفرض آليات محاسبة حقيقية.
5. خلق شبكات إعلامية قاعدية لتوثيق كل هجوم وفضحه محليًا ودوليًا.
الإفلات من العقاب هو الوقود الحقيقي لتمادي المستوطنين في جرائمهم. ومع كل هجوم لا يواجه بأي ردع سياسي أو قانوني، تتعزز لديهم قناعة بأن دم الفلسطيني لا ثمن له، ما يُغريهم بتوسيع الهجمات من حيث الحجم والنوع والأسلوب. ومن هنا، فإن تقاعس المجتمع الدولي وعدم اتخاذ السلطة إجراءات حقيقية يشكلان غطاءً إضافيًا لهذا التصعيد.
هذا التراكم من الاعتداءات ينذر بانفجار وشيك في الضفة الغربية، ليس فقط كفعل عفوي، بل كنتيجة حتمية لعوامل متداخلة، أبرزها:
• تفاقم القمع اليومي من الاحتلال والمستوطنين.
• انسداد الأفق السياسي وغياب أي أفق تفاوضي أو أمل في حل.
• تصاعد الخطاب الفاشي داخل الحكومة الإسرائيلية.
• شعور الفلسطينيين بأنهم وحدهم في الميدان، دون حماية محلية أو دولية.
الانفجار، في حال وقوعه، لن يكون محدودًا، بل مرشحًا للامتداد إلى نقاط تماس عدة في الضفة الغربية، ما قد يُعيد تشكيل المشهد الميداني والسياسي بالكامل. وما لم يتم كبح جماح المستوطنين وإعادة بناء إستراتيجيات الدفاع المجتمعي والمؤسساتي، فإن كفر مالك لن تكون سوى محطة من مسلسل دموي مستمر، يتغذى على صمت العالم وتواطؤ النظام.
في النهاية، ما جرى في كفر مالك ليس مجرد حادثة محلية، بل هو تعبير مكثف عن مشروع استيطاني استعماري، يتغذى على العنف ويهدف إلى قلب المعادلة الديموغرافية والجغرافية في الضفة الغربية، تحت غطاء حكومي وأمني كامل.
وفي غياب رادع فعلي، يبقى السؤال المطروح: إلى متى يبقى الدم الفلسطيني مباحًا على مذبح الاستيطان؟ وهل الكفاح المسلح هو الخيار لردع الاحتلال والمستوطنين؟ وعن السؤال الأخير، فهو يحمل كل الإجابة.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=90090