
10:20 am 22 يونيو 2022
كتب عدنان رمضان: هل تعصف عقلية المليشيا بالمجتمع الفلسطيني؟

رام الله – الشاهد| كتب عدنان رمضان: الهوية الوطنية التي تم إعادة إنتاجها عبر النضال وبناء المؤسسات المعنوية الجامعة للشعب الفلسطيني كانت هي الصمغ الذي أعاد مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية بعد النكبة وبعد اقتلاع الفلسطيني من أرضه بكل ما يعني ذلك من إلغاء ونزع لاحد أهم شروط المجتمعات الإنسانية.
علاقة الانسان مع بنية الانتاج التي تمثلت بالأرض مجتمع فلاحي الطابع بغالبيته السكانية في عملية تدمير ممنهج ومستمر منذ أكثر من سبعة عقود تضافرت مع هذا المخطط العديد من العوامل الخارجية وكذلك إنتاج سياقات مجتمعية وسياسية وقانونية فسرية مختلفة.
ومع كل ما سبق ورغم التحديات الكبيرة التي استهدفت هذه الهوية الجامعة الا ان المجتمع الفلسطيني حافظ على وجوده وإعادة إنتاج ذاته وهويته السياسية والثقافية والرمزية والمجتمعية بشكل قوي وفي كل أماكن تواجده.
عندما يضعف ويتراجع دور السلطة الرسمية (كمفهوم وممارسة) سواء كانت سياسية أو قانونية أو تضعف قوة وحضور وتأثير القيم والمعايير الضابطة، فإن المجتمعات تعيش حالة من الفشل وتضع نفسها أمام تهديد حقيقي يمس كافة جوانب الحياة حيث تفتح هذه الحالة المشوهة المجال واسعا انتشار سلوكيات الفوضى واشاعة الخوف والاستقواء والفساد والمحسوبية والتي يطلق عليها أحيانا عقلية المليشيا والمرتبطة بشكل كبير بالفشل المجتمعي.
المليشيا هي أحد أشكال تنظيم الجماعات وخاصة المسلحة وقد رافقت هذه الظاهرة العديد من حركات التحرر والمقاومة عالميا واستخدمت كآلية استثمار وتعظيم للقوة ساهمت في تغيير موازين القوة في العدي من دول العالم ومكنتها من نيل استقلالها وحريتها أو حققت لها انجازات في ظل ظروف صعبة جدا.
ولكن ذلك ترافق مع حالة انضباط عسكرية مثالية ومرجعية سياسية قوية، قد تواجد ايضا هذه المليشيا في اقوى دول العالم مثل الولايات المتحدة وقد تكون مسيطرا عليها بقوة القانون والدولة ولكن في حالة تفكك الدولة تتحول الى خطر.
لقد كانت عصابات الكيان الصهيوني التي هاجمت القرى والمدن الفلسطينية قبل النكبة وابانها ايضا شكلا من أشكال المليشيا التي ارتكبت جرائم حرب وسببت عمليات تهجير وتطهير عرقي كبرى بحق شعبنا الفلسطيني واستخدمت لاحقا كأنوية لجيش الكيان الصهيوني والان نلاحظ انتشار مليشيا المستوطنين المسلحة كأداة تطهير عرقي وتخويف وارها وهي أحد ادوات السياسة المعتمدة والمستمرة التي يستخدمها الكيان ضد شعبنا حتى هذه اللحظة.
هناك فرق بين المليشيا كبنية تنظيمية وعقلية المليشيا كحالة ونظام عقلي وبنية تفكير وقيم وتنعكس في انماط سلوك تستخدم هذه البنية التنظيمية في اضعاف البنية المجتمعية وانتشار الفوضى والخوف عندما تتحول الحياة اليومية الى صراع على الوجود ويشعر الافراد والجماعات بتهديد جدي على وجودهم الانساني كأفراد أو حتى كجماعات، فتكون المليشيا وبناها التنظيمية والعقلية، ملجاهم للحماية والاستمرار.
عقلية المليشيا تلعب دورا مهما في افشال المجتمع وهو أخطر من افشال الدول لانعكاسات هذا الفشل التدميرية بعيدة المدى ولتعطيله المستمر لعمليات الاصلاح والتنمية والتقدم ويترافق بشكل مستمر مع تراجع دور الثقافة والمعرفة وتنامي مظاهر الانفصال والانعزال وانقلاب المشهد الثقافي وسيادة التفاهة والسطحية تراجع المكانة المرتبطة بالإنجاز والعلم والعقل لصالح الجهل والغيبية والخرافات.
عقلية المليشيا بطبيعتها تتناقض جوهريا مع مفهوم المواطنة والمسؤولية ،بل تعد اشد اعدائها ، فقدرة هذه العقلية وما يرتبط بها من مظاهر فساد وبلطجة ومحسوبية قدرة هذه الانماط والمظاهر على السيادة والانتشار مستفيدة ومرتبطة بانحسار المرجعيات القانونية وغياب المسائلة وعدم وجود حماية كافية للمعارضين والمدافعين عن حقوق الافراد والجماعات والمطالبين بتطبيق القانون أو تحقيق العدالة تتغذى على الفوضى.
وهي ايضا ترتبط ارتباط وثيق بإضعاف الاخر والغاءه ونفي وجوده فهذه العقلية تخشى من اي قوة تفكير وهي تستمد قوتها من ضعف الاخر ولا تعترف به الا كموضوع للتأثير والابتزاز والاستخدام كفزاعة وتبرير لمزيد من التفرد وقمع أشكال الانتقاد والاختلاف.
لذلك يكون الارهاب والترهيب أهم ادوات هذه العقلية في قمع المختلف لان هذه العقلية ايضا في صميم تكوينها خائفة مرتجفة ولا تتحمل وجود اي قوة اخرى في محيطها ولو قبلت بذلك مؤقتا بشكل ظاهري فهذا ليس الا وسيلة للتمكن وتعزي الحضور والتهيؤ للانقضاض في اللحظة المناسبة.
العلاقات والجماعات الاولية كالقبيلة والطائفة (والهياكل الحداثية التي تأخذ شكلا عصريا لكناها في الحقيقة والجوهر تبنى وتقوم على نمط الجماعات الاولية وعلى نفس الاسس) تشكل تربة خصبة لانتشار المليشيا والتفكير وبعقلية المليشيا والتصرف على أساسها.
ومجتمعاتنا العربية برغم كل مظاهر العصرنة الا انها لا زات تعيش نمط العلاقات الولية في الاقتصاد والسياسة والبنى المجتمعية والثقافية التي تعكس نفسها في انماط الحياة اليومية لأغلب المجتمعات العربية ومن ضمنها المجتمع الفلسطيني.
قد ينظر البعض الى المليشيا بطريقة ايجابية عندما يكون أحد أدوات الثورة المسلحة والمقاومة وتكون قوة منضبطة وأقرب الى المؤسسة العسكرية الرسمية لكننا هنا نتحدث عن حالة تدهور وفشل للسلطات بما يشكل تهديدا مجتمعيا وهي ما لا نتحدث عنه الآن.
ومن جهة اخرى فإننا لا يجب ان نستهين بأثر وقدرة هذه العقلية على التدمير وانتهاك الكرامة الإنسانية واحتجاز التقدم المجتمعي وضرب البناء المؤسسي وتحويل المعيشة اليومية الى تحدي كبير.
ما يحدث في لبنان والعراق وليبيا أو الكثير من الدول الافريقية أو اللاتينية في مراحل تاريخية ليست بالبعيدة، في العراق طردوا المحتل الامريكي صاغرا لكن العراقيين انهزموا امام الفشل المجتمعي وطغيان عقلية المليشيا التي لا زالت تهيمن على الحياة السياسية والمجتمعية وتنتج وتحمي منظومات الفساد.
وحقق فيها المستعمر ما لم يحققه بالوجود العسكري المباشر حين دفع باتجاه المجتمعات الطائفية كوصفة افشال نموذجية يتم تطبيقها في أكثر من بلد عربي والتي تؤدي بالضرورة الى أشكال الفشل المجتمعي المؤسس.
إن استمرار ضعف السلطات لفترة من الزمن يؤسس مجتمعا لكثير من السلبيات ومن أخطرها التأسيس لعقلية المليشيا وجماعاتها المختلفة خاصة مع ارتفاع منسوب المناطقية والعشائرية والفصائلية حيث تستطيع كل جماعة ان تنفرد بالقرار وتترجم ذلك الى ممارسات وسلوك ومواقف تمارس فيها السلطة بمنطق الاجبار والقوة وتحل عقيدة البقاء للأقوى مغيبة اية اعتبارات للصلاح واية التزامات أو عقود مجتمعية محمية بالقيم والمعايير والاخلاق أو القانون والتشريعات التي يتم تغييبها قصدا.
يظهر ذلك مجتمعيا ويتجلى في انتشار حالات من الانفلات والعربدة حيث يعتقد أفراد هذه المجموعات التي تتحول الى عصابات ومن ثم مليشيات يعتقدون أن بإمكانهم ان يصلوا الى غاياتهم باستخدام القوة وفرض إرادتهم على الآخرين وانه لا يوجد هناك من يحاسبهم أو يستطيع ذلك.
فهم يمنعون ويغلقوا الطرقات والمؤسسات ويسمحوا ويمنعوا ويهددوا ويرهبوا وينفذوا بأيديهم متجاهلين اية مرجعيات قانونية أو غيرها حيث يستطيع عضو المليشيا ان يتجرأ وبكل وقاحة على التطاول على رجال العلم مثلا دون ان يرجف له جفن.
تزداد هذه الظاهرة وتنتشر بشكل واضح كبنية تفكير وسلوك في مجتمعنا الفلسطيني وخاصة عندما تصبح وسيلة لتعزيز المكانة والدور والانتفاع على المستويات الاقتصادية وغيرها وعندما تتحالف أو تستخدم سياسيا من قبل قوى حزبية أو امنية.
ونتيجة ذلك تتحول مؤسسات الصهر الوطني التي ساهمت تاريخيا بصيانة وصياغة الهوية الوطنية الفلسطينية في مواجهة محاولات التغييب من الاحتلال وحلفائه وقد ظهرت بشكل واضح وتمثلت تاريخيا ما قبل اوسلو بالجامعات والاحزاب والمؤسسات الوطنية وما انتجت من ثقافة وقيم وممارسات شكلت رصيدا وتراثا وطنيا يتم استغلاله الان في صالح تحويل هذه المؤسسات الى فضاء صناعة هذه العقلية وتفريخ لهذه الجماعات الميليشياوية.
تكلس القيادات وتحولها الى اقطاع سياسي ينتفع ويتغذى على مظاهر التشظي والانقسام هو إحدى الرئتين التي توفر التنفس لعقلية المليشيا والفشل الاجتماعي فكلما انقسم وانكشف المجتمع كلما استفادت هذه الطبقة من هذا الفشل أو التراجع وتحول هذه العقلية وما ينتج عنها من ممارسات وسلوك الى وقود يغذي مصالحهم ودرجة نفوذهم ويغطي على فسادهم وبالعادة فإن خطاب هذه الفئة يتعرض تماما مع ما يسلكون تجسيد لحالة الازدواجية المقيتة التي تعيشها بنى التخلف.
ولكم ان تطرحوا سؤالا بسيطا حول دور هذه القيادات ومن اين تستمد شرعيتها وأين تتجه وهل تقوم القيادة بمسؤولياتها في مجال ادارة شؤون الناس وحياتهم اليومية ام انها تنشغل بمصالحها الخاصة بعيدا عن هموم وقضايا الناس.
القيادات التي تهمل وبشكل مقصود قضايا الناس الجوهرية وتنفصل عن الناس والمجتمع وتهتم بتسخير مقدرات المجتمع لصالحهم كأفراد ومنظومات وتصل الى حد عدم الاكتراث بالفشل المجمعي بكل ما يعني ذلك من مخاطر وجودية على المجتمع الفلسطيني.
هذه العقلية قادرة على تدمير اية مؤسسة حتى المؤسسة العسكرية ذات الضبط الشديد والعالي وتحولها الى مجموعة من العصابات ولا تستطيع اقوى المؤسسات المدنية ان تواجهها إذا تغلغلت فيها وتنتعش في ظل حالات الاستقطاب السياسي أو المجتمعي وانتشار السلاح.
يبدوا اننا في فلسطين نتلمس وبوضوح مظاهر انتشار لهذه العقلية ومخاطر امتدادها ونعيش سياقات سياسية وأمنية تهيئ ظروفا مناسبة لهذا الأمر ونجد انه في بعض الاحيان ان بعض القوى التي من المفترض ان تكون صمام أمان المجتمع تدفع بوعي أو بدون وعي الى تعميم وتعزيز هذه العقلية ومظاهرها بمبررات الخطر الذي يهدد الجماعة السياسية.
ان هذه المظاهر والتي لا تلبث ان تتراجع حتى تظهر وبقوة من جديد تعطي اهمية أكبر للدعوات المتعلقة بتشكيل جبهة انقاذ وطنية بأسرع وقت للخروج من حالة الاستعصاء وغياب الأفق وغير ذلك من مظاهر التشظي والانقسام التي تعصف بقضيتنا وتهدد وجودنا المجتمعي.