اقتصاد السلطة الذي لا تُحتمل هشاشته

رام الله – الشاهد| كتب عبد الله حرب.. منذ أن انطلقت معركة “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، و”الاقتصاد” الذي بنته أو تبنّته السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية تحديداً، في تداعي. فليس أبْلغ دليلاً من الذي يجري في هذه الأيام على عمق الخلل البنيوي للسياسات المالية التي انتهجتها السلطة، ابتداءً من توقيعها “بروتوكول باريس الاقتصادي” مع الاحتلال عام 1994، والملحق بـ “اتفاقية أوسلو”، وصولاً إلى ما سمّي بـ “الإصلاحات المالية” التي شرع في تنفيذها سلام فيّاض عام 2007 تحت مظلّة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس أبو مازن.

لماذا تخصم “إسرائيل” منذ سنوات من أموال المقاصّة التي تجبيها لصالح السلطة الفلسطينية؟ ولماذا أصلاً تقوم “إسرائيل” بجمع هذه الأموال نيابة عن السلطة؟ لماذا يوجد حوالي 200 ألف عامل في الضفة الغربية كانوا يعملون في المستوطنات الإسرائيلية والداخل المحتل وهم الآن عاطلون عن العمل؟ لماذا ينقلب الحال بشريحة اجتماعيّة بأكملها، فتنتقل من نمط حياة مريح ومرفّه إلى حالة العوز؟

يسعى هذا المقال إلى شرح كيف وصل سكّان الضفّة الغربية إلى هذا الوضع الاقتصادي الصعب، والذي بدأت معالمه تتكشّف بشكل أساسيّ مع أزمة جائحة “كورونا” عام 2019، ثمّ الآن مع التداعيات الاقتصادية لحرب الطوفان.

قبل العودة بالتاريخ، ماذا حلّ بالناس وسوقهم؟
وفقاً لأرقام “سلطة النقد” و”جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني”، فإن الديون على السلطة الفلسطينية بلغت مع نهاية عام 2022 حوالي 3.4 مليار دولار، منها حوالي 2 مليار دولار ديون داخلية لصالح البنوك المحلية، إضافة لتراكم حوالي 900 مليون دولار كديون متأخرة على السلطة الفلسطينية لصالح القطاع الخاص الفلسطيني، فيما تستمر الموازنة العامة للسلطة بتسجيل عجز سنوي لا يقل عن 7%.

يأتي كلّ ذلك في ظل التراجع المستمر للمنح والمساعدات الخارجية والدولية، والتي كانت تشكل عام 2008 مثلاً حوالي 28% من إجمالي الناتج المحلي للسلطة الفلسطينية، ثم تراجعت ووصلت إلى أقل من 2% عام 2021 وما بعده، وفقا لتقارير “البنك الدولي”.

وإلى جانب الانهيار الكامل لجميع معالم الحياة في قطاع غزة، فقد شهدت كل القطاعات الاقتصادية تراجعا متفاوتًا خلال نصف العام الأخير، فوفقاً لأرقام “سلطة النقد الفلسطينية”، تراجعت القيمة المضافة لمختلف الأنشطة الاقتصادية في الضفة الغربية خلال الربع الأخير من عام 2023 مقارنة بالفترة المناظرة لها من العام السابق، حيث تراجع قطاع الإنشاءات بمقدار 27%، وقطاع الخدمات -أكبر القطاعات حجماً- بمقدار 21%، وقطاع الزراعة بمقدار 12%، وقطاع الصناعة بمقدار 24%.

أما العاطلون عن العمل، فقد ازدادت أعدادهم في الضفة مع توقّف عمل العمال الفلسطينيين في أراضي الـ 48 منذ السابع من أكتوبر، وكذلك تراجعت أنشطة القطاع الخاص في الضفة، إذ تقدّر “سلطة النقد الفلسطينية” نسبة البطالة في الضفة لعام 2023 حوالي 30%، حيث فقد “الاقتصاد الفلسطيني” مع الحرب حوالي 270 ألف وظيفة، موزعة على العمال في أراضي الـ 48 والمستوطنات والقطاع الخاص الفلسطيني في الضفة.

وحتى بالنسبة لموظفي القطاع العام الفلسطيني (موظفي السلطة)، فلم يتلقوا سوى ما قيمته راتب شهر ونصف في كل فترة الحرب. وإذا أضفنا لذلك كله، القيود المفروضة على الحركة نتيجة لحواجز الاحتلال وتضييقاته، فمن المتوقع وفقاً لـ “سلطة النقد الفلسطينية” أن ترتفع نسب الفقر في الضفة بشكل كبير خلال العام الحالي 2024.

هذا الحال هو بعض من نتائج السياسة المالية التي انتهجتها السلطة، ولكن قبل أن نوضح: ما هي هذه السياسة؟ وكيف أدت إلى ما أدت له؟ لنوضّح: كيف كان اقتصاد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل أوسلو ومجيء السلطة؟

كيف كان الاقتصاد الفلسطيني قبل أوسلو؟
طوال فترة الحكم العسكري للاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة (1967 – 1994)، كانت كل الموارد والمؤسسات تحت سيطرة سلطات الاحتلال، حيث أشرفت هذه السلطات على إدارة النشاط الاقتصادي، وقامت بجباية الضرائب والرسوم، وإصدار تراخيص مزاولة الأنشطة الاقتصادية المختلفة.

تشكّلت التركيبة القطاعيّة لاقتصاد الفلسطينيين فترة الحكم العسكري بشكل أساسي من قطاعات ثلاثة: أولاها؛ المشاريع المموّلة محليّاً، وهي مشاريع في معظمها عائلية موزعة على مجالات الصناعات التحويلية البسيطة والزراعة والسياحة وصناعة الحجر وغيرها، وثانيها؛ الجمعيات التعاونية، وتركز أغلبها في المجال الزراعي، وآخرها؛ التحويلات الماليّة الواردة من الخارج، ويتشكل معظمها من رواتب عمّال الضفة والقطاع داخل “الخط الأخضر”، وأموال المغتربين المحوّلة لعائلاتهم، إضافة لأموال المنح والمساعدات المختلفة.

لقد شكّلت المشاريع الصناعية المحليّة وقتها أحد أهمّ مصادر الدخل للفلسطينيين، ومثّلت واحداً من أبرز أشكال النشاط الاقتصادي المحلي الذي كان سائداً قبيل تأسيس السلطة الفلسطينية. وبعيداً عن الجدل الذي أحاط بجزء لا بأس به من هذه المشاريع في تلك الفترة، على اعتبار أنها مجرّد تعاقدات بالباطن لتشغيل “رأس المال الإسرائيلي” في الأراضي المحتلة عام 1967، فقد كانت من القطاعات التي استوعبت حوالي 26 ألف عامل، وذلك حسب دراسة لعادل سمارة نشرت عام 1990 في العدد الأول من “مجلة الدراسات الفلسطينية”. وبحسب الدراسة شكّلت المشاريع الصناعية حتى أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، حوالي 10% من الناتج المحلّي الإجمالي في قطاع غزة، ومثلها تقريباً في الضفة الغربية.

أما ما يخص القطاع الزراعي بشكل عام، فقد شكل حتى نهاية الثمانينيات حوالي 27% من الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية، وحوالي 13% في قطاع غزة، مع العلم أن قطاع الزراعة كان يشكّل نسبة أكبر من الناتج المحلي الإجمالي في الضفة والقطاع قبل الحكم العسكري.

فقد كان لزراعة الزيتون مثلًا، وما يتعلق بها من أنشطة وأعمال، خلال فترة الحكم العسكري، حصةٌ لا بأس بها من “الاقتصاد الفلسطيني” في الضفة الغربية تحديداً، إذ بلغت حوالي 14% من مجمل قيمة الإنتاج الزراعي في الضفة، وتعتبر زراعة الزيتون فيها، أكبر قطاع من حيث تشغيل العاملين المستقلين.

وقد كانت التجربة الأبرز على صعيد “الاقتصاد الوطني” الفلسطيني في تلك الفترة، هي الجمعيات التعاونية. وبالرغم من أن هذه الجمعيات بدأت فعليا فترة الحكم الأردني للضفة الغربية وتأسست وفق القوانين الأردنية، إلا أن أدوارها الأبرز تجلت بوضوح خلال فترة الانتفاضة الأولى (1987-1993)، بوصفها مؤسسات تعتمد بشكل كلّي على رأس المال المحلي الوطني والجهود المحلية التشاركية، وكذلك توجه خدماتها وإنتاجها للسوق المحلي. ومع ذلك، فقد تجاوز دورها المجال الاقتصادي وتعدّاه ليشمل الأدوار الاجتماعية والتربوية والصحية؛ الأمر الذي ساهم في تعزيز صمود وتثبيت الفلسطينيين خلال الانتفاضة الأولى.

لاحقاً، ومع تأسيس السلطة الفلسطينية وسيطرتها على الحيّز العام الاقتصادي والاجتماعي، تراجع تدريجيّاً دور التعاونيات وانتشارها في المجتمع الفلسطيني، وكان ذلك يعني خسارة الفلسطينيين أداة من أدوات المواجهة والصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

البروتوكول الذي تأبّد
قد يكون الشق الاقتصادي من اتفاق أوسلو، المعروف بـ “بروتوكول باريس الاقتصادي” أو “اتفاقية باريس” عام 1994، هو أكثر أجزاء الاتفاقية إثارة للجدل. وعلى الرغم من أن البروتوكول كالاتفاقية كلها، مُفترض أن تنتهي بعد 5 سنوات من توقيعها، مفسحةً المجال لقيام “الدولة الفلسطينية” الموعودة، إلا أن هذه السنين الخمس قد تأبدت إلى يومنا هذا. ومع المياه الكثيرة التي جرت في قنوات بقية أجزاء الاتفاق المتعلقة بالمسائل الأمنية والسياسية، ظلَّ اتفاق باريس ببنوده المختلفة صامداً ومطبّقاً بشكل مثاليٍّ تقريباً.

هكذا، جاء الاتفاق كمرحلة انتقالية، ليؤسس للاستقلال الفلسطيني وبناء المؤسسات الاقتصادية للدولة الفلسطينية المرتقبة، لكن بنوده وتفاصيله خلت من كل ما يمكن أن يؤدي لهذا الاستقلال أو الانفصال عن “الاقتصاد الإسرائيلي”، بل ورسّخت الاعتماد الكلي ومأسسة الارتباط العضوي بين الاقتصادين. فعلامَ نصّت الاتفاقية؟

من الناحية المؤسساتية، نصّت الاتفاقية على تشكيل اللجنة الاقتصادية المشتركة لمتابعة تطبيق الاتفاقية ونقاش التفاصيل والآليات وحل الخلافات التي قد تظهر لاحقاً، بالإضافة إلى تشكيل ما يلزم من لجان فرعيّةٍ فنيّةٍ.

وعلى صعيد جباية الجمارك على الواردات وضرائب المبيعات والقيمة المضافة -التي تشكل حالياً الحصة الأكبر من مداخيل السلطة الفلسطينية-، فقد حصر الاتفاق أمر جبايتها وتحصيلها وتحويلها للسلطة بيد “إسرائيل”، بل أكّد الاتفاق على تقييد صلاحيات السلطة في تحديد قيم الضريبة والجمارك بفوارق محددة عن مثيلاتها في “إسرائيل” فيما يعرف بسياسة “الغلاف الجمركي الواحد”، مع الفارق الكبير بين مستويات الدخل على جانبي “الخط الأخضر”، أي بين الضفّة والقطاع من جهة، والقدس وأراضي عام 1948 من جهة أخرى.

وعلى صعيد العلاقة التجارية مع الدول العربية الحدودية، مصر والأردن تحديداً، فقد نصّت الاتفاقية على قائمة محدّدةٍ من السلع التي يمكن للسلطة الفلسطينية استيرادها منهما، وفق نسب جمركية وضريبية خاصة تحدّدها السلطة، وحتى هذا البند لم يخل من قيود متعلقة بالبيئة والمواصفات وغيرها.

أما على صعيد أسعار الوقود (البنزين تحديداً)، فقد قيّدت الاتفاقية قدرة السلطة على التسعير الخاص بها، بما لا يتجاوز فارق 15% عن سعر البنزين في “إسرائيل”، كما اشترطت لاستيراد الوقود من مصر والأردن قيودا متعلقة بالبيئة والمواصفات الأوروبية والأمريكية المعتمدة في “إسرائيل”.

وتنص الاتفاقية على أن العملة الإسرائيلية عملة معتمدة في مناطق السلطة الفلسطينية، ولا تعطي السلطة الحق في إصدار عملة خاصة إلا في إطار اتفاق يتم إقراره ضمن اللجنة الاقتصادية المشتركة، الأمر الذي حرم السلطة الفلسطينية من اتخاذ سياسات مالية ونقدية مستقلة ومجدية.

إعلان

ورطة الارتباط الاقتصادي
وفق “الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني”، فإنّ لـ”إسرائيل” حصّة الأسد من التبادل التجاري مع السلطة الفلسطينية بما يصل إلى ثلثي قيمته، ففي عام 2022 بلغت الصادرات الفلسطينية لـ”إسرائيل” 88% من مجمل الصادرات الفلسطينية، فيما بلغت واردات السلطة الفلسطينية من “إسرائيل” للعام ذاته نسبة 57% من مجمل وارداتها، مع العلم أن ثمة عجز في الميزان التجاري لصالح “إسرائيل” بحوالي 3.2 مليار دولار تقريباً.

شهادات عمال من غزة بعد الإفراج عنهم من قبل إسرائيل
تحصد إسرائيل سياسات الحصار والإفقار على شكل عمالة فلسطينية رخيصة تعمل داخل الأراضي المحتلة(الجزيرة)
ليس هذا فحسب، فحتى السادس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كانت “إسرائيل” تنافس السلطة على مركز المشغّل الأكبر للعمالة الفلسطينية، حيث كان يعمل في دولة الاحتلال ومستوطناتها في الضفة قرابة 200 ألف عامل فلسطيني، وقد تحوّل غالبية هؤلاء بين يوم وليلة لعاطلين عن العمل بقرار من الحكومة الإسرائيلية، في نموذج واضح على هشاشة الاقتصاد الفلسطيني، التي أسست لها اتفاقية باريس.

وفيما يبدو، أن إشكالية الاتفاقية لا تقتصر على ما فيها من إجحاف، إذ تتعدّى ذلك إلى الطريقة التي تعاملت بها السلطة الفلسطينية مع الاتفاقية. فوفقاً لدراسة صادرة عن “معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)” عام 2013، تناولت الواقع التطبيقي لاتفاقية باريس الاقتصادية، وخلصت إلى أن هناك بنوداً في الاتفاقية تخدم الاقتصاد الفلسطيني لم تبذل السلطة الفلسطينية جهداً لتفعيلها وتطبيقها واستخدامها بالشكل الأمثل، ومنها على سبيل المثال إمكانية استيراد الوقود بسعر أفضل من الأردن ومصر، أو البنود المتعلقة بمعلومات الضريبة المتبادلة لتقليص الفاقد في الجباية الضريبية (= الضرائب المستحقة غير المحصَّلة)، وكذلك بعض البنود المتعلقة بالزراعة والعمال وغيرها، كما تشير الدراسة لعدد من البنود التي لم تطبق أو طبقت بشكل منقوص.

إعلان

على كل حال، ومع أهميّة نقاش الجوانب التقنية في الاتفاقية، إلا أنها ليست مجرد بنود اقتصادية تقنية يمكن علاجها بمعزلٍ عن السياسة، فهذا الاتفاق هو اتفاق سياسي بالأساس. فأي تحسين تقنيّ كان ممكناً في التطبيق، لم يكن ليعالج فقدان الفلسطينيين السيطرة على حدودهم ومنافذهم البرية والبحرية، ولا افتقارهم للبنك المركزي والسياسات المالية والنقدية المستقلة، ولن يعالج حرمانهم من الاستفادة من الثروات الطبيعيّة في أراضيهم، خصوصاً تلك الواقعة في المناطق المصنّفة كأراضي (ج) حسب اتفاق أوسلو عام 1993.

هكذا إذاً، لم يساهم بروتوكول باريس سوى في مأسسة وتعميق ارتهان السوق الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي. وعلى ضوء ذلك، توصّل جل الاقتصاديين الفلسطينيين قديماً، إلى استحالة أو صعوبة خلق اقتصاد فلسطيني قوي، أو تنمية اقتصادية مستدامة، في ظل تغوّل الاحتلال المتصاعد منذ توقيع اتفاقية أوسلو وضمن شروط ملحقها الاقتصادي. حتى أولئك الذين كانوا أكثر تفاؤلاً بإمكانية نجاح تنمية اقتصادية في هذه الظروف، بحسب مدير “معهد ماس” رجا الخالدي، انتهوا إلى ذات الاستنتاج.

لقد أكّدت الشهور الخمسة الأخيرة مجدّداً، مدى ضعف الاقتصاد الفلسطيني وانكشافه في وجه الأزمات. ولكن، ليست الاتّفاقات وحدها ما جلب هذه الأزمة على الاقتصاد الفلسطيني، بل أيضاً تصوّرات وقناعات ونماذج تبنّتها السلطة ونخبها، نتج عنها سياسات مالية واقتصادية طبّقت على مدار العقود الثلاثة الماضية، عمّقت من الشرخ الاقتصادي في المجتمع الفلسطيني. فما هي هذه السياسات؟

سوق حرّة إلا من “إسرائيل”
يشير الخبير والمستشار الاقتصادي نصر عبد الكريم، إلى أن جزءاً لا بأس به من النخبة الاقتصادية للسلطة الفلسطينية، تعتقد بضرورة تحقيق مزيدٍ من الاندماج مع “الاقتصاد الإسرائيلي”، على اعتبار أنه الخيار الأصوب اقتصادياً، كون “الاقتصاد الإسرائيلي” اقتصاد متقدم ومندمج في الأسواق العالمية، ويتبنى سياسات السوق الحرة؛ الأمر الذي سيعود بالنفع على “الاقتصاد الفلسطيني”، وفق اعتقادهم.

هذا في الوقت الذي يتفق فيه العديد من الخبراء على أن الخيار الاقتصادي الأسلم، هو تقليل الاعتماد على “الاقتصاد الإسرائيلي”، وذلك لأسباب اقتصادية بحتة، بعيداً حتى عن الأسباب السياسية. إذ أن “الاقتصاد الفلسطيني” مقارنة بنظيره الإسرائيلي، يعتبر اقتصاداً صغيراً مغلقاً يفتقر للعديد من المقوّمات الضرورية للتنافس وحماية رأس المال والمنتج المحلّيين.

ولكن كفّة السعي المحموم نحو الاندماج بـ “الاقتصاد الإسرائيلي”، هي التي غلبت.

كانت المرحلة الأولى من تأسيس السلطة الفلسطينية، مرحلة بناءٍ للمؤسسات المختلفة، وسن القوانين والتشريعات أو استيرادها وتطبيقها محلّياً. لكنّ السمّة الأبرز، كانت وما تزال استيعابها لعدد كبيرٍ من الموظفين في القطاع العام بشقّيه المدني والأمني؛ الأمر الذي انعكس على حصة فاتورة الرواتب من مجمل النفقات العامّة، إذ تراوحت فاتورة الرواتب بين عامي 1997-2018 -وفق بيانات سلطة النقد ووزارة المالية والجهاز المركزي للإحصاء- بين 45% و60%، أي 50% كمتوسط، وهي نسبة كبيرة نسبياً تشكّل ضعف المعدّل العالمي لنسبة رواتب القطاع العام من النفقات العامّة.

كثرت الانتقادات حول غياب الحوكمة والشفافية وانتشار الفساد في أوساط السلطة، وصارت ذريعة استخدمت بقوّة للتضييق على ياسر عرفات لسحب الصلاحيات الماليّة منه ومأسسة الإنفاق والتمويل، وذلك على خلفيّة اتّهامه بدعم الانتفاضة المسلحة التي انطلقت عام 2000. لاحقاً، ومع انتهاء انتفاضة الأقصى، تولّى محمود عبّاس رئاسة السلطة، وقام بتشكيل حكومة سلام فيّاض، التي ذهبت بعيداً في تبنّي سياسات “السوق الحرة” إلا من “إسرائيل”.

عمل فياض على حث البنوك على استثمار نسب أكبر من أموالها في الضفة الغربية، حيث بات قطاع غزة تحت حكم حركة حماس، فأوعز للبنوك بالتعامل وفق سياستين مختلفتين لكل من الضفة وغزة. أما الضفة، فقد أغرقت بالتسهيلات البنكية، التي عنت في الغالب توفير قروض سهلة وسريعة لأغراض استهلاكية، فتضاعفت القروض الممنوحة بين عامي 2007 – 2017 إلى 4 مرات.

سلام فياض رئيس الحكومة الفلسطينية- تقرير/ حكومة فياض وفتح.. علاقة تناقض أم تحالف؟
عملت حكومة سلام فياض على خلق حالة رفاه وهمية تقوم على القروض وارتهان المواطنين للبنوك(الجزيرة)
لقد تركزت غالبية القروض الممنوحة على الأغراض الاستهلاكية أو غير الإنتاجية، فمثلاً، وحسب الأرقام الصادرة عن سلطة النقد لعام 2023، بلغت حصة قطاع الزراعة حوالي 2% فقط من قيمة التسهيلات الائتمانية الممنوحة، وقطاع الصناعة والتعدين حوالي 7%، بينما بلغت حصة شراء السيارات والمركبات حوالي 5%، وبلغت القروض الاستهلاكية حوالي 14%؛ الأمر الذي يمكن أن يعدّ مؤشراً واضحاً على طبيعة السياسة المتّبعة في توجيه ومنح التسهيلات الائتمانية.

وحتّى بعيداً عن الإقراض، أهملت القطاعات المهمة اقتصاديّاً وسياسيّاً كالزراعة والصناعات التحويلية، على حساب قطاعات التجارة الداخلية والخدمات. وبحسب دراسة صادرة عن “شبكة السياسات الفلسطينية”، فإن حصّة التجارة الداخليّة عام 2018 بلغت 22% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 7.5% للزراعة و 11.5% للصناعات التحويلية.

إضافة إلى ذلك، عملت السلطة على استقطاب رؤوس الأموال العربية والفلسطينية المغتربة، للاستثمار في الضفة الغربية، ويعدّ مؤتمر بيت لحم للاستثمار عام 2008 مثالاً جيّداً على جهود حكومة سلام فياض بهذا الصدد. ومع تدفق المساعدات الدوليّة والعربية للسلطة الفلسطينية، تحقّقت نسب نموٍ في الاقتصاد خلال سنوات حكومة سلام فيّاض، لكنّ نقداً كبيراً نشأ حول حقيقة هذا النمو وأثره الاقتصادي الحقيقي على الفلسطينيين.

كما تعدّ السلطة الفلسطينية من النماذج القليلة التي تشكّل الرسوم الجمركيّة نسبة كبيرة جداً من وارداتها المالية، فغالبية الدول والاقتصادات الطبيعيّة تكون حصة ضريبة الدخل أعلى بكثير من حصة الرسوم الجمركية في الواردات، لكن العكس يحصل في حالة السلطة. ويضاف إلى ذلك، أن هذا الاعتماد الكبير رهن السياسة الإسرائيلية، فهي التي تتحكم بجباية هذه الموارد (الرسوم الجمركية) وبالتالي تملك منعها أو تحويلها للسلطة أو استخدامها كعقوبة ووسيلة ضغط وابتزاز، كما هو جاري منذ سنوات.

نزع الاقتصاد عن السياسة
يشير الباحث إبراهيم شقاقي إلى أن هيمنة اقتصاد الاحتلال على “الاقتصاد الفلسطيني” وتبعّية الأخير، كانت هي السمة المميزة لفترة ما قبل السلطة الفلسطينية، فيما لم تستطع السلطة تغيير هذا الحال، بل على العكس ازداد معها رسوخاً.

أما فترة الانتفاضة الأولى بحسب شقاقي، فقد كانت استثناء، حين استطاع الفلسطينيون توظيف العامل المقاوم كأداة استقلال من خلال تبنّي المقاطعة ونشاط الجمعيات التعاونية، وهذا النجاح النسبي راجع لأن هذا العامل الاقتصادي استخدم في سياق مشروع سياسي في حينه. ويستنتج شقاقي أنه لا حلول اقتصادية لقضية سياسية، مفسراً بذلك فشل كل مسارات السلام الاقتصادي المتعاقبة.

هكذا، سعت السلطة الفلسطينية في سياساتها المالية إلى محاولة نزع السياسة عن الاقتصاد، إذ قدّمت نموذجاً اقتصاديّاً هشّاً، ظاهره رفاه وتنمية اقتصادية، وباطنه احتلال ينهب ويصادر ويسيطر على الموارد ويزيدنا تبعيّة له، وما كشّفه الطوفان من عورة، ليس سوى سوءة هذا النموذج.

إغلاق