سقوط الشرعية.. التمديد الباطل في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان

سقوط الشرعية.. التمديد الباطل في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان

رام الله – الشاهد| خط المحامي عصام عابدين مقالاً حول التمديد لمجلس الهيئة المستقلة لحقوق الانسان، وما شاب ذلك مخالفات قانونية، لا سيما حرمان العاملين من الانتخابات والمنافسة والترشح، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

أولاً: مخالفة صريحة للنظام المعدّل لعام 2021

يقول المفوض العام للهيئة في لقاء إعلامي إنه في عام 2021، تم تعديل نظام موظفي الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ونص التعديل صراحة على أن تعيين المدير العام يكون من خلال “إعلان ومنافسة ” ولمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط.

وعليه، فإن المدير العام الحالي للهيئة، الذي تولّى المنصب منذ عام 2015 – وليس 2016 كما يقول المفوض العام – يكون قد تجاوز في جميع الأحوال المدة القانونية المسموح بها وفقاً للنظام المعدّل، مما يجعل أي قرار بتمديد ولايته أو إعادة تعيينه باطلاً من حيث الشكل والمضمون، حتى قبل الخوض في مسألة الإجراءات.

ومن يُحاول أن يحتسب مدة تولي المنصب من تاريخ تعديل النظام عام 2021، يُحوّل هذا التعديل من أداة حوكمة إلى غطاء لشرعنة التأبيد، ويُكرّس العبث القانوني. فالتعديل لا يُلغي الماضي، ولا يُعيد العداد إلى الصفر، بل يُفترض أنه جاء استجابة لتجاوزه، لا تمديده. وبذلك فهذا ليس تطبيقاً للنظام، بل تفصيلاً للنظام على المقاس، ونسفاً لمبدأ سيادة القانون من داخل مؤسسة يُفترض بها أن تحميه.

ثانياً: التذرّع بـ”الظروف الحالية” لتبرير التمديد باطل قانونياً وأخلاقياً

الاستناد إلى ذرائع فضفاضة من قبيل “الظروف الحالية وحالة عدم الاستقرار في البلد” – كما ورد على لسان المفوض العام – لا يُبرر بأي حال من الأحوال خرق النظام الداخلي المعدّل للهيئة. بل العكس تماماً، فكلما اشتدّت الأزمات وتعاظمت الانتهاكات، ازدادت الحاجة إلى تكريس الشفافية، والتداول القيادي، والتمسك الصارم بسيادة القانون، لا الالتفاف عليه وانتهاكه.

والمثير للدهشة أن المفوض العام نفسه أقرّ بأن النظام المعدّل لعام 2021 نصّ صراحة على أن تعيين المدير العام يجب أن يتم “بإعلان ومنافسة” ولمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة فقط، ثم عاد ليُعلن أن مجلس المفوضين قرّر “بالإجماع” إبقاء المدير العام لأربع سنوات إضافية! وكأن هذا “الإجماع” يعلو على النظام، ويمنح الشرعية لخرقٍ سافر لمبادئ الشفافية والحوكمة وسيادة القانون.

من يُضفي الشرعية على هذا الخرق باسم “الإجماع” لا يُعلّق النظام فحسب، بل يُفرغه من معناه ومضمونه، ويُسقط مجلس المفوضين بأكمله في وحل التواطؤ لا موقع المسؤولية. وهكذا يتحوّل “الإجماع” من قيمة مؤسسية إلى أداة لشرعنة الانتهاك، ويُصبح الغطاء الجماعي أخطر من الخرق الفردي، لأن السقوط هنا جماعي… ومُريع.

وبهذا القرار، يكون مجلس المفوضين قد أطاح بالنظام الذي أقرّه بنفسه، ونسف المعايير التي وضعها بيده، مُثبتاً أنه لا يملك استقلالاً حقيقياً ولا ولاية قانونية معتبرة. أمّا التذرّع الضمني بـ”الاستقرار المؤسسي”، فليس سوى غطاء هشّ لتكريس التأبيد لا التداول، والولاء لا الكفاءة، والجمود لا الشفافية، في سقوطٍ مؤسسي يُفرغ الحوكمة من معناها، ويُجهز على ما تبقّى من شرعية الهيئة.

ثالثاً: انتهاك للدستور الفلسطيني والمعايير الدولية

من الضروري التذكير بأن الحوكمة هي جزء أصيل لا يتجزأ من سيادة القانون في المعايير الثابتة للأمم المتحدة، وأن مبدأ سيادة القانون هو أساسٌ للحكم في فلسطين راسخٌ في أحكام نص المادة السادسة من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل التي تُشدد على أن “مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في فلسطين، وتخضع للقانون جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص”. وأن مبدأ المساواة وعدم التمييز، وتكافؤ الفرص، مبادئ وقيم دستورية راسخة أيضاً في قانوننا الأساسي تحت الباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات العامة.

والتذكير أيضاً، أن أيّ اعتداء على تلك المبادئ والقيم الجوهرية التي يكفلها القانون الأساسي المعدل في باب الحقوق والحريات العامة يُعد “جريمة دستورية” موصوفة في أحكام المادة (32) من الدستور الفلسطيني تستوجب المساءلة والمحاسبة ولا تسقط بالتقادم.

رابعاً: خرق صريح لمعايير الاعتماد الدولية (GANHRI/SCA)

تُشدّد اللجنة الفرعية للاعتماد (SCA) التابعة للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان (GANHRI) في ملاحظاتها العامة وتوصياتها الصادرة ضمن تقارير التقييم الدورية، على أن عملية تعيين القيادات العليا في المؤسسات الوطنية يجب أن تتم من خلال “إجراءات شفافة، علنية، تنافسية، مبنية على الجدارة، وتكفل المشاركة الواسعة وعدم التمييز” [(SCA General Observations 1.8)]، و”أن أي عملية تعيين لا تتسم بهذه المعايير تهدد استقلالية المؤسسة ومصداقيتها ” [(SCA Report – March 2022)].

وبناءً عليه، فإن الادعاء بأن “الباب مفتوح” دون إجراء إعلان رسمي عن شغور المنصب أو تنظيم عملية منافسة عامة وحقيقية، لا يُشكل فقط مخالفة صارخة لهذه المعايير وغيرها، بل يُقوّض الأساس الذي بُني عليه تصنيف الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ضمن الدرجة (A)، وهو التصنيف الذي يضمن لها التمثيل والمشاركة في أعمال مجلس حقوق الإنسان والآليات الأممية الأخرى.

وتؤكد اللجنة (SCA) في تقييماتها السابقة أن “استمرارية شاغلي المناصب العليا دون تجديد شفاف وقانوني تُعدّ مؤشراً على الخلل في الحوكمة الداخلية ” [(SCA Assessment Reports, Asia-Pacific region, 2019-2023)]. وهو ما ينطبق بدقة على التمديد غير القانوني الحالي، خاصة في ظل غياب الإعلان والمنافسة، وغياب أي بيان رسمي عن مجلس المفوضين يُفصّل الإجراءات المتبعة، أو يُظهر الحد الأدنى من الالتزام بالنظام الداخلي والمعايير الدولية.

فالمسألة لم تعد مسألة خرق، بل إنكاراً صريحاً له، يُعبّر عن أزمة حوكمة عميقة ومُتجذرة، حيث تُطوى القواعد، ويُطمس النظام، وتُدار المؤسسة في العتمة… بلا شفافية، ولا مساءلة، ولا احترام للقانون.

إن مثل هذا المسار يُعرض الهيئة إلى خطر حقيقي يتمثل في إعادة تقييم تصنيفها، بل وفقدانه، وفقاً لإجراءات اللجنة الفرعية للاعتماد [(SCA Procedure Manual, 2021)]، مما يُقوّض موقعها الدولي وفاعليتها ضمن منظومة حقوق الإنسان. وهذا يُضعف من قدرتها على أداء دورها كمؤسسة وطنية مستقلة يُفترض أن تمثل مصالح الضحايا الفلسطينيين أمام الآليات الأممية، ويُعمّق أزمة الثقة التي تتسع بين الهيئة والمجتمع الذي يُفترض أن تحمي حقوقه، ويعكس تماهياً مع النهج السلطوي على حساب القيم والمساءلة والكرامة.

خامساً: تضارب مصالح وصمت مُريب من مجلس المفوضين

تصريحات المفوض العام للهيئة، وهو نفسه مدير لمؤسسة أهلية منذ أكثر من عقدين دون تداول، تُقوّض مبادئ الشفافية، وتُجسّد ذهنية مهيمنة داخل المجتمع المدني تُبرّر احتكار القيادة وتُكرّس الانغلاق السياسي، بدلاً من مواجهته.

وهذا التواطؤ الصامت يُفسّر كيف تحوّلت الهيئة ومكونات المجتمع المدني من أدوات لمساءلة السلطة إلى واجهات تُضفي الشرعية على استبدادها.

والأخطر أن مجلس مفوضي الهيئة “المستقلة” لم يُصدر حتى اللحظة أي بيان أو توضيح للرأي العام بشأن التمديد “بالإجماع” والإجراءات المتبعة، والموقف من خرق النظام والقانون والمعايير الدولية، ما يؤكد على أن المجلس مُجرد واجهة شكلية فاقدة للحضور والاستقلالية، تُعيد إنتاج الأزمة الأخلاقية والسياسية ذاتها، التي يدفع ثمنها المواطن الفلسطيني غالياً من حقوقه وكرامته.

هذا الصمت، في لحظة فارقة كهذه، ليس مجرد تواطؤ، بل شهادة موت مؤسسي مُكتمل الأركان بحق الهيئة المستقلة.

إغلاق