خطاب السلطة في زمن الإبادة: سقوط أخلاقي وسياسي

خطاب السلطة في زمن الإبادة: سقوط أخلاقي وسياسي

رام الله – الشاهد| علق الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي في مقال له على خطاب رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أمام الأمم المتحدة، والذي طعن فيه المقاومة مرات عدة واصطف إلى جانب الاحتلال عبر ترديد روايته الكاذبة والمضللة حول حرب الإبادة وغيرها، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

منذ اندلاع حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة، تكشفت أمام العالم حقائق صادمة عن طبيعة الدور الذي تلعبه السلطة الفلسطينية في المشهد السياسي. ففي الوقت الذي تحشد فيه إسرائيل أكثر من سبعين ألف جندي لاجتياح غزة وتغرق المدينة بالحديد والنار وتوغل بالقتل والتجويع والتهجير، كان رئيس السلطة الفلسطينية يطل بخطاب متلفز أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يهنئ فيه الإسرائيليين برأس السنة العبرية، مديناً عملية السابع من أكتوبر، داعياً الفصائل الفلسطينية إلى تسليم سلاحها، بل ومطالباً بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بلا شروط، متجاهلاً آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين يذوبون في سجون الاحتلال تحت ظروف قاسية لا يطيقها البشر.

هذه المفارقة لا يمكن النظر إليها كحادثة معزولة، بل هي انعكاس مباشر لطبيعة الأزمة البنيوية التي تعيشها السلطة منذ نشأتها، فمنذ توقيع اتفاق أوسلو، لم تستطع السلطة أن تتجاوز دورها الوظيفي كأداة لإدارة السكان الفلسطينيين تحت الاحتلال، دون أي سيادة حقيقية أو مشروع وطني جامع، ومع الوقت، تحولت السلطة إلى جهاز سياسي وأمني يعتمد في بقائه على التنسيق مع إسرائيل وعلى المساعدات الغربية، ما أفقدها القدرة على تمثيل الشعب الفلسطيني تمثيلاً حقيقياً.

خطاب السلطة الأخير جاء في لحظة تاريخية فارقة، حيث يتعرض قطاع غزة لمحاولة سحق وجودية تهدف إلى تهجيره وتفريغه من سكانه، كان من المنتظر أن تصدر القيادة الرسمية خطاباً يحشد الجماهير ويدعو للوحدة الوطنية ويرسم استراتيجية مواجهة، لكنها اختارت على العكس تماماً أن تقدم أوراق اعتماد جديدة للمنظومة الغربية والإسرائيلية، مُظهرة أنها ما زالت الخيار “المعتدل” القابل للترويض، في مقابل “التطرف” الذي تمثله المقاومة.

إن دعوة الفصائل إلى تسليم سلاحها في لحظة يشتعل فيها الميدان ليست فقط انحيازاً لمصلحة الاحتلال، بل هي مطالبة للشعب الفلسطيني بالاستسلام الكامل، فالسلاح اليوم ليس مجرد أداة عسكرية، بل هو رمز لوجود الشعب الفلسطيني وصموده وقدرته على البقاء، ومطالبة غزة أن تسلم سلاحها بعد كل هذه التضحيات تعني ببساطة محو آخر خطوط الدفاع عن هوية فلسطين وحقها في البقاء.

الأخطر من ذلك أن السلطة، بخطابها هذا، ساهمت في إضعاف الموقف الفلسطيني أمام العالم، فحين يخرج رئيس السلطة ليُدين عملية السابع من أكتوبر، وهو الذي يُفترض أنه قائد الشعب تحت الاحتلال، فإنه يمنح إسرائيل فرصة ذهبية لتسويق روايتها، ويجعل من الاحتلال ضحية ومن الضحية جلاداً، وحين يدعو إلى الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بلا شروط، فإنه يلغي المبدأ الأساس في أي صراع وهو التوازن في التبادلية والاعتراف المتكافئ بآلام الطرفين، ويضع نفسه في خانة من يتبنى المطالب الإسرائيلية بشكل كامل.

هذه الحالة تُعيد طرح سؤال الشرعية في النظام السياسي الفلسطيني: من يمثل الشعب فعلاً؟ من يعبر عن آلامه وآماله؟ في غزة، وعلى الرغم من الحصار والدمار، يبرز مشهد المقاومة كعنوان لإرادة الشعب وصموده، وفي الضفة، حيث تسيطر السلطة، يتكرر مشهد القمع للمظاهرات والاعتقالات السياسية والتضييق على الأصوات الحرة، هذا التناقض العميق يُظهر أن الشعب في مكان والسلطة في مكان آخر، وأن الفجوة بينهما لم تعد قابلة للردم بالخطابات أو الشعارات.

تاريخياً، لم ترحم الشعوب قياداتها التي اختارت الاصطفاف مع المستعمر على حساب مصالحها الوطنية، وما يعيشه الفلسطينيون اليوم يُشبه تماماً لحظات الانقسام الكبرى في تاريخ حركات التحرر، حين يخرج من داخل الصف الوطني تيار يراهن على التسوية والتنازلات، في مقابل تيار يراهن على المقاومة والثبات، وكما أثبتت التجارب، فإن الكلمة الأخيرة تكون دوماً للشعوب التي تدافع عن وجودها بالسلاح والإرادة والدماء، لا للسلطات التي تراهن على رضا المستعمر.

في المحصلة، يختصر خطاب السلطة الأخير الأزمة بأكملها: أزمة قيادة فقدت اتصالها بشعبها، أزمة مشروع سياسي انتهى منذ زمن لكنه ما زال يُفرض على الفلسطينيين كقدر لا بديل عنه، وأزمة شرعية لن تعالجها المجاملات الدبلوماسية ولا البيانات الرسمية، إن من يهنئ المحتل في وقت المجازر لا يمكن أن يكون لسان حال الضحايا، ومن يطالب بنزع سلاح المقاومة لا يمكن أن يقود شعباً يقاوم وجودياً للبقاء على أرضه.

إن غزة اليوم لا تدافع عن نفسها فقط، بل تدافع عن معنى فلسطين برمته، عن حقها في أن تكون موجودة وحرة ومقاومة، أما السلطة، بخطابها ومواقفها، فهي تكتب فصل النهاية لمشروعها السياسي، وتُعلن بصوت واضح أنها اختارت الانفصال عن شعبها والانحياز لخصمها، والتاريخ وحده سيحكم، لكن المؤكد أن الشعوب لا تغفر، والذاكرة الوطنية لا تمحو بسهولة من اصطف مع العدو ساعة المحنة.

إغلاق