عزلة نتنياهو ونبذ السلطة: حين يفشل الخطابان معاً

عزلة نتنياهو ونبذ السلطة: حين يفشل الخطابان معاً

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول خطاب رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو أمام الأمم المتحدة، وتطابقه في العديد من النقاط في خطاب رئيس السلطة محمود عباس بشأن غزة والمقاومة، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

لم يكن مشهد انسحاب معظم الوفود الدولية من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة قبيل خطاب بنيامين نتنياهو حدثاً عابراً يمكن تجاوزه، بل كان لحظة كاشفة تختصر عزلة إسرائيل المتفاقمة على الساحة الدولية، وتعلن أمام العالم بأسره أن الاحتلال فقد شرعيته الأخلاقية والسياسية، وأن رئيس وزرائه المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب، لم يعد يملك سوى كلمات جوفاء تتردد في فراغ القاعة كما لو أنها صدى لهزيمته المعنوية قبل أن تكون السياسية.

لقد تحولت المقاعد الخالية إلى حكم أخلاقي صارم، إلى محكمة ضمير عالمي قالت بوضوح: لن نصغي بعد اليوم لتبريرات مجرم يقود حرب إبادة على شعب محاصر في غزة، حيث جاوز عدد الشهداء السبعين ألفاً بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، وحيث تتوالى المجازر التي فاقت كل وصف وأحرجت حتى أقرب حلفاء إسرائيل.

نتنياهو الذي حاول أن يظهر أمام الداخل الإسرائيلي بمظهر القائد الحازم المتعهد بإعادة الأسرى واستكمال ما يسميه مهمة القضاء على المقاومة، بدا في الواقع ضعيفاً ومهزوماً، يكرر خطابات فقدت قيمتها منذ زمن، فلا جديد سوى وعود خاوية وأكاذيب مكرورة، وقد اعترف بنفسه أن الدعم الدولي الذي تدفّق على إسرائيل في الأيام الأولى بعد السابع من أكتوبر قد تبخر وأن معظم قادة العالم باتوا يخضعون كما وصف لضغوط ما سماه “الإسلاميين المتطرفين”، وهو اعتراف واضح بأن روايته لم تعد تلقى صدى، وأن الضمير الإنساني بدأ ينتصر على آلة الدعاية الإسرائيلية التي طالما احتكرت الخطاب الاعلامي في الغرب.

لكن المفارقة المؤلمة أن خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة لم يختلف كثيراً عن خطاب رئيس السلطة الذي سبقه إلى المنبر نفسه، فكلاهما يطالب المقاومة بتسليم سلاحها والانصياع لإملاءات الاحتلال، نتنياهو يربط وقف الحرب باستسلام حماس، وعباس يربط أي مستقبل فلسطيني بدون حماس وبتسليم السلاح للسلطة والالتزام بأوسلو ونبذ ما يسميه العنف، وكأنهما يلتقيان عند النقطة ذاتها: تجريد الشعب الفلسطيني من سلاحه ومن روحه المقاوِمة، وتحويل القضية إلى مجرد ملف إداري يمكن التفاوض عليه بلا كرامة ولا سيادة وعاريا من كل أوراق قوة.

هذا التطابق الصارخ بين خطاب مجرم حرب يقود آلة قتل جماعية وخطاب سلطة فاقدة للشرعية لا يرى في المقاومة إلا عبئاً، يمثل واحدة من أعقد مآسي الواقع الفلسطيني، إذ يجد الفلسطيني نفسه محاصراً بين عدو يقتل بلا رحمة وسلطة رسمية تقدم نفسها كوكيل مطيع يكرر رواية الاحتلال ويستجدي وعوداً جوفاء من المجتمع الدولي.

وفي الخارج، بينما كان نتنياهو يطلق وعوده الفارغة أمام مقاعد خالية، كان المئات يتظاهرون أمام مقر الأمم المتحدة مطالبين باعتقاله ووقف الحرب، ليكشف المشهد الفارق الهائل بين الشارع العالمي الذي يزداد وعياً بعدالة القضية الفلسطينية، وبين كثير من الأنظمة الرسمية التي تلوذ بالصمت أو تساير إسرائيل خوفاً أو طمعاً.

إن خطاب نتنياهو الأخير لم يكن مجرد كلمة، بل كان مرآة تعكس مأزق إسرائيل الأخلاقي والسياسي، وتؤكد أن كل ما تملكه اليوم هو لغة الاستعلاء الفارغة، بينما الواقع يقول إن المقاومة ما زالت قائمة، وإن غزة رغم جراحها ما زالت صامدة، وإن كل محاولات الاحتلال والسلطة معاً لن تنجح في نزع حق الشعب الفلسطيني في البقاء والحرية.

لقد أراد نتنياهو أن يظهر بمظهر المنتصر، فإذا به يكشف ضعفه وعزلته، وأراد أن يخاطب العالم فإذا بالعالم يشيح بوجهه عنه، وأراد أن يخيف المقاومة فإذا بخطابه يتحول إلى شهادة على مأزقه، ليبقى المشهد الأصدق هو القاعة الفارغة التي قالت بلغة الصمت ما لم يقله أحد: إسرائيل منبوذة، ونتنياهو ساقط سياسياً وأخلاقياً، والمقاومة باقية حتى يرحل الاحتلال.

إغلاق