المليشيات والمجموعات التي يشكلها الاحتلال مصيرها مزابل التاريخ

رام الله – الشاهد| خط الكاتب نبهان خريشة مقالاً عقب مصرع قائد المليشيات التي شكلها الاحتلال شرق قطاع غزة ياسر أبو شباب، واعتبر أنه على مدار التاريخ فإن تلك المجموعات مصيرها مزابل التاريخ، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
شهد التاريخ الفلسطيني ظاهرة متكررة تتمثل في نشوء مجموعات فلسطينية وجدت في موقع التحالف—المباشر أو غير المباشر—مع قوة استعمارية أو احتلالية، بدءاً من فصائل السلام خلال ثورة 1936، مروراً بروابط القرى في سبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى المليشيات التي ظهرت في غزة في الفترة الأخيرة. وعلى الرغم من اختلاف الأزمنة والظروف، فإنّ هذه الظاهرة تكررت كلما حاولت سلطة استعمارية تشكيل أدوات محلية تعمل في بيئة من الانقسام أو الفراغ السلطوي، بهدف الالتفاف على الحركة الوطنية الفلسطينية أو التحكم بالمجتمع من خلال وكلاء محليين. لكن المصير بقي واحداً: انهيار هذه الأدوات بمجرد تغيّر موازين القوى أو تراجع الدعم الخارجي، ورفض المجتمع لها بوصفها جسماً غريباً على مشروع التحرر.
في ثلاثينيات القرن الماضي، ظهر نموذج مبكر لهذا المسار حين لجأت سلطات الانتداب البريطاني إلى دعم وجهاء محليين وتشكيل مجموعات مسلحة أُطلق عليها اسم “فصائل السلام”. هدف البريطانيون من ذلك إلى كسر الإضراب العام ومنع الثورة من اكتساب عمق شعبي واسع. وكانت تلك المجموعات بمثابة محاولة لإنتاج قيادة بديلة قادرة على ضبط الشارع بما يخدم سياسات الانتداب. ورغم ما مُنحته هذه الفصائل من تسهيلات سياسية وأمنية، فإنها لم تنجح في ترسيخ نفسها داخل البنية الاجتماعية الفلسطينية، لأنها مثّلت مشروعاً خارجياً لا يملك امتداداً حقيقياً في المجتمع. ومع انتهاء الثورة، تلاشت هذه الفصائل بسرعة، وارتبط اسمها تاريخياً بالخيانة والانتهازية، وتحوّلت إلى مثال على فشل أي قيادة تُفرض من القوة الإستعمارية.
بعد عقود، سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى إعادة إنتاج نسخة أكثر تنظيماً من هذا النموذج من خلال “روابط القرى” في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات. جاءت هذه الروابط كجزء من محاولة هندسة مشهد سياسي فلسطيني بديل يلتف على منظمة التحرير، من خلال خلق مؤسسات محلية تدير الشؤون اليومية للسكان بينما تبقى القرارات السيادية بيد الاحتلال. اعتمدت الروابط على شبكة من الوجهاء التقليديين وبعض الشخصيات الطامحة إلى نفوذ، لكن مشروعها سرعان ما انكشف باعتباره أداة في يد الاحتلال. واجهها الفلسطينيون بالمقاطعة، واعتبروها بنية مصطنعة لا تمثل إرادتهم. ومع اندلاع الانتفاضة الأولى، انهار المشروع بالكامل، إذ لم تستطع الروابط الصمود أمام موجة التعبئة الشعبية.
وفي العقود اللاحقة، لم يتخلّ الاحتلال عن فكرة البحث عن قوى محلية تعمل ضمن منطق “الاستقرار مقابل الامتيازات”. لكن الظروف تغيّرت: فقد أدى الانقسام الفلسطيني والحصار العميق لقطاع غزة والحرب لاحقا إلى خلق مساحات واسعة من الفوضى وغياب السلطة، وهي بيئة مثالية لنشوء مجموعات مسلحة عميلة صغيرة تحاول فرض نفوذها. في هذا السياق ظهرت مليشيات محلية في غزة ارتبط اسمها بمرحلة ما بعد الحرب وتداعيات الانهيار الأمني، حيث سعت أطراف مختلفة—بعضها بتشجيع مباشر أو غير مباشر من الاحتلال—إلى ملء الفراغ عبر تشكيل قوى تعمل على ضبط السكان، مقابل غضّ الطرف عن مصالحها الاقتصادية أو الأمنية.
أبرز هذه الحالات كانت مليشيات “أبو شباب”، التي شكّلت نموذجاً حديثاً لتحالفات تنشأ في بيئة منهكة وإدارة مرتبكة. فهذه المجموعات لم تنشأ من رحم بنية سياسية أو اجتماعية راسخة، بل جاءت نتيجة انهيار منظومة الضبط التقليدي وظهور اقتصاد الحرب وشبكات النفوذ. وبذلك أصبحت قابلة للتوظيف من قبل الاحتلال، الذي وجد فيها وسيلة لتخفيف الاحتكاك المباشر مع السكان، عبر وكلاء محليين يفرضون السيطرة الميدانية بما يخدم أهدافه المرحلية. لكن هذه البنى ظلّت تعاني من ضعف عضوي، لأنها بلا شرعية وطنية ولا قاعدة اجتماعية واسعة، وتعتمد اعتماداً شبه كامل على توازنات هشة ودعم اسرائيلي يشكك في جدواها .
كان مقتل أبو شباب محطة فارقة كشفت نهاية مرحلة أكثر مما عبّرت عن نهاية شخص. فقد أظهر الحدث أن هذه المليشيات لا تمتلك مقومات البقاء حين تتغير الظروف أو ينفضّ عنها الغطاء الذي حماها. فهي، مثل فصائل السلام وروابط القرى، لم تستطع أن تتحول إلى قوة مستقرة، لأنها نشأت في الأساس لخدمة ترتيبات أمنية أو سياسية لا تعبّر عن مصالح الشعب الفلسطيني. كان أبو شباب رمزاً لمجموعة تعتمد على قوة عابرة لا تتجذر في الوعي الجمعي، وبالتالي جاء سقوطه ليؤكد مرة أخرى أن أي قوة محلية تنشأ بوظيفة تخدم الاحتلال مصيرها مزبلة التاريخ بمجرد تغيّر لحظة التوازن.
تجربة المئة عام الماضية تكشف مساراً واضحاً: كل مشروع يسعى الاحتلال إلى بنائه عبر قوى فلسطينية بديلة ينتهي إلى الفشل، لأنها مشاريع بلا جذور وطنية، وولادتها مرتبطة بحاجة استعمارية لا بحاجة مجتمعية. وما إن تتراجع هذه الحاجة حتى يسقط المشروع ويختفي أصحابه من المشهد السياسي، كما حدث مع فصائل السلام وروابط القرى، وكما يحدث اليوم مع المليشيات التي نشأت في غزة خلال اللحظات الأكثر هشاشة.
إن هذا المسار لا يقدّم مجرد دروس تاريخية، بل يكشف قاعدة راسخة: الشرعية الوطنية لا تُستعار من قوة استعمارية، ولا تُبنى على حساب الإجماع الشعبي. القوى التي تنشأ في الظلّ، وخارج قيم التحرر الوطني، مهما بدت قوية في لحظة ما، سرعان ما تنهار حين تستعيد الحركة الوطنية أنفاسها أو حين يدرك المجتمع حجم الخطر. لذلك فإن مصير هذه المليشيات، كما كان مصير سابقاتها، أن تتحول إلى هامش في التاريخ وتلقى في مزابله، بينما يبقى الفعل التحرري هو العنوان الثابت في المسار الفلسطيني.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=97900




