عقد تربوي جديد.. التعليم بوابة الوجود والسيادة

عقد تربوي جديد.. التعليم بوابة الوجود والسيادة

رام الله – الشاهد| كتب ثروت زيد الكيلاني: في الأزمنة التي تتسارع فيها التحولات بما يفوق قدرة الإنسان على التقاط أنفاسه، يتقدّم التعليم من أطراف النقاش إلى مركزه، لا باعتباره مجرد قطاع من قطاعات الدولة، بل كأفق يتلاقى فيه الإنسان مع معنى وجوده وحدود حريته.

وحين تتبدّل موازين القوة وتتقاطع المصالح الكبرى، تصبح المعرفة مجالاً للصراع، ويغدو التعليم ساحةً يُعاد فيها تشكيل الوعي والإنسان وموقعه في العالم.

وفي هذا المفترق التاريخي، لم يعد السؤال: ما الذي نعلّمه؟ بل السؤال العميق الذي يشبه محكمة الوجود: أي إنسان تريد البشرية أن تصنعه؟ وما الدور الذي يؤديه التعليم في هندسة المستقبل وصياغة الإنسان القادر على مواجهة عالم متسارع بلا يقين؟.

يدخل العالم اليوم مرحلة تتقاطع فيها المعرفة والسلطة والتكنولوجيا، فيختفي الحدّ الفاصل بين الأداة ومن يشغلها، وتظهر منظومات فكرية جديدة تتخفّى خلف ابتكارات لامعة، لكنها تعيد توزيع النفوذ وتشكل الفهم بطرق غير مرئية. هنا يصبح التعليم أكثر من منظومة: بوابة للحرية أو قيود على التصور الذهني، ويطرح السؤال: هل سيُعاد تشكيل الإنسان كذات حرة قادرة على الاختيار، أم كموارد بشرية تُعاد هندستها وفق منطق السوق الذي يقدّر الإنسان بالعائد فقط؟.

في ضوء هذه التحولات، يستدعي الأمر بناء عقد اجتماعي جديد للتعليم؛ عقد لا يقتصر على إصلاح أعطاب الماضي، بل يعيد النظر في أسس النظام التعليمي ذاته، ويستحضر التجربة الإنسانية بوصفها محاولة دائمة للنجاة من العدم وصناعة المعنى. في هذا البحث عن معنى ثابت في عالم متحوّل، يصبح التعليم فضاءً يُختبر فيه المجتمع في قدرته على حماية إنسانيته وصيانة بصيرته، وضمان ألا يتحوّل الإنسان إلى مجرد نتاج لمنطق قوة يرى فيه وظيفة فقط.

في هذا السياق، يصبح تشخيص واقع التعليم على المستويات العالمية، العربية، والفلسطينية ضرورة لفهم المصير الإنساني قبل أن يكون تحليلاً لقطاع أو مؤسسة.

 

المحور الأول: التعليم بين أزمات العالم ونداءات الإنسان

المشهد العالمي: هشاشة النموذج وارتباك المعنى

على المستوى العالمي، تتجلّى أزمة التعليم كمرآة لأزمة الإنسان المعاصر. في عالم يندفع نحو مراكز قوة جديدة ويُدار بمنطق السوق، فقدت المدرسة قدرتها على التوازن بين غريزة المعرفة وسلطة النظام، لتصبح موقعاً بين الممكن والمسموح، بين الحلم بالتحرير ومتطلبات السيطرة.

تحول التعليم إلى مساحة محاصرة بين اقتصاد لا يعترف إلا بالمردود، وسياسات تكبح البصيرة أكثر مما تغذيها وتكنولوجيا تتقدم بسرعة تفوق قدرة الإنسان على إدراك أثرها. المشكلة ليست نقص الموارد، بل انكماش الفلسفة التربوية، وغياب القدرة على طرح الأسئلة الكبرى التي تعيد للمدرسة دورها كمكان لصياغة المعنى لا مجرد إنتاج الكفاءات.

أصبح المتعلم منفّذاً لا فاعلاً، حاملاً للكفايات بلا معنى، ويتحوّل التعليم، مع صعود الفجوة الرقمية والاجتماعية، من وعد بالخلاص إلى أداة ناعمة للضبط، تعيد ترتيب الطبقات وتوزّع الامتيازات بصمت. هنا يفرض الواقع إعادة بناء بوصلة جديدة: كيف نصنع إنساناً قادراً على النجاة من عالم متحوّل، دون أن تُستباح رؤيته للعالم أو يُسلب حقه في اختيار طريقه

 

المشهد العربي: التعليم في فضاء مأزوم تتقاطع فيه السلطة والهوية

في العالم العربي، تتداخل الهشاشة البنيوية مع القيود السياسية وازدواجية الهوية التربوية، فيتحرك التعليم داخل فضاء يتأرجح بين استدعاء الماضي ومحاولة اللحاق بمستقبل لم تولد فلسفته المحلية بعد.

 

تتجلى الأزمة العربية في ثلاثة وجوه رئيسية:

• مركزية السلطة على المعرفة: التعليم يُستخدم كامتداد للسلطة لا للحرية، فيغيب النقد ويتراجع الخيال، ويصبح التفكير النقدي مرهوناً بتعليمات وأجندات خارجية أو داخلية ضيقة.

• هشاشة البنية وكثافة الفقر التعليمي: تفاوتات حادة بين المدن والأطراف، والطلبة محاصرون ببيئة لا تفك قيودهم، مما يجعل المدارس مراكز تدريب للبقاء لا لصياغة المعنى.

• صراع الهويات التربوية: بين النهضة، التوافق السياسي، وامتصاص البطالة، ما يفقد المؤسسة البوصلة ويجعل السؤال الجوهري: أي رؤية للوجود نرغب أن تحملها الأجيال القادمة في أعماقها؟

المشهد الفلسطيني: التعليم في قلب الإبادة والتفكيك والاختناق البنيوي

في فلسطين، الأزمة تتجاوز ضعف النظام أو الموارد، لتصبح استهدافاً للوجود ذاته. روح تُحاصر، وذاكرة جماعية تُستهدف، وجسور بين الإنسان وتاريخه تُهدم.

 

تتجلى الأزمة الفلسطينية في ثلاثة مستويات:

• الإبادة المستمرة: استشهاد الطلبة والمعلمين، تدمير المدارس والجامعات، محاولة محو المساحات الآمنة للمعرفة.

• تفكيك المنظومة وخلخلة المعايير: اعتقالات، إغلاق مؤسسات، رقابة وتزوير المناهج لتجريد الفلسطيني من روايته وسرديته، ولغته، وثقافته.

• الانقسام والضغط الاقتصادي والتمويل المشروط: عوائق داخلية وخارجية تشن حرباً على النظام التعليمي، ليصبح التعليم ساحة صراع بين الاحتلال، الانقسام، والمانحين، بينما يبقى حق الفلسطيني في التعلم معلقاً.

هكذا يصبح التعليم الفلسطيني معركة على الوجود والسيادة والذاكرة، إذ تحاول المعرفة حماية الإنسان الفلسطيني من المحو وضمان حقه في المعنى، لا مجرد مكان في الصف، وتحويل المدرسة إلى فضاء للجبهة الأخلاقية والمعرفية المستمرة.

 

المحور الثاني: التحديات البنيوية والفكرية

أزمة التعليم لا تقف عند المشهد العالمي أو العربي أو الفلسطيني، بل تتكثف في تحديات بنيوية وفكرية تمس جوهر اللحظة التربوية. هذه التحديات لا تُقاس بالأرقام، بل بما تفعله في المخيلة الفكرية للإنسان: في المعنى، في القدرة على بناء المستقبل، وفي إمكانية أن تبقى المدرسة موطناً للحرية لا الانصياع.

• أزمة الفلسفة التربوية: غياب السؤال المؤسس حول نوع الإنسان المراد صنعه، ما يجعل المدرسة مكان تدريب للبقاء بدل التفكير، والواجب يحل محل السؤال، والوظيفي يحل محل المعنى.

• تغوّل البيروقراطية: تقييد المبادرة، خلق ثقافة طاعة بدل مسؤولية، وإخضاع التعليم لقيود تنظيمية تحول المدرّس والطلبة إلى أدوات تنفيذية.

• العدالة التربوية: الفرص لا تُقاس بالتحاق أو إنجاز، بل بمكان الولادة، مع إعادة إنتاج الظلم عبر خوارزميات توزيع الفرص.

• المعرفة تحت الحصار: السياسات والمؤسسات الدولية والشركات الكبرى تحدد ما يُدرّس وما يُنسى، وتفرض رؤية سوقية لا تعترف بالمعنى العميق للثقافة وفاعلية الإنسان في الدفاع عن هويته

• التحدي الفلسطيني يضيف طبقة إضافية من التعقيد: التعليم يقاوم ثلاث مستويات من التهديد: الاستهداف المباشر، السيطرة البنيوية، والضغط الداخلي والخارجي. هنا يصبح التعليم جبهة صمود معرفية، تُعيد إنتاج الإنسان بما يستطيع تحدي الهيمنة بالمعنى لا بالعنف.

 

المحور الثالث: عقد تربوي جديد للتعليم الفلسطيني

في فلسطين، يُعاد بناء العقد الاجتماعي للتعليم ليس لتطوير الخدمات أو تحديث البنية التحتية، بل لحماية الحق في الوجود. التعليم ليس منطقة رمادية يمكن تأجيلها أو تسليعها، بل ركيزة تحافظ على الكيان الوطني وصموده المعرفي ضد التفكيك الاستعماري. العقد الجديد يصبح ميثاقاً سيادياً، يعلن أن الوجود الفلسطيني ليس قابلاً للمساومة، وأن الحق في التعليم ليس امتيازاً، الاستقلالية شرط انعتاق الكينونة.

 

المعرفة كقدرة على الصمود

الاحتلال يسعى لاحتكار السردية وتعريف الإنسان والمستقبل، وأي مشروع تربوي لا يبدأ من سؤال: من يملك الحق في تعريف الحقيقة؟ يكون ناقصاً. المعرفة الفلسطينية بمناهجها ولغتها وأسئلتها واستفساراتها هي استعادة القدرة على امتلاك المعنى، ومن يملك المعنى يملك القدرة على الفعل والتمكين. التعليم الفلسطيني يحرر اللغة من الاستعمار الرمزي، ويعيد تعريف الهوية خارج منطق التجزئة، ويستعيد الجغرافيا عبر المخيّلة، وينتج حساً نقدياً مستقلاً.

 

المدرسة فضاء للكرامة والمقاومة

الجودة في فلسطين تُقاس بقدرة المدرسة على أن تكون حاملاً للذاكرة، مولّداً للأمل، ضامناً للكرامة، مساحة للتمكن الوجودي رغم غياب الدولة المكتملة. الطلبة الفلسطينيون الذين يذهبون إلى صفوفهم تحت الحصار أو على الحواجز يمارسون رفضاً لأن يُختزلوا في ضحايا أو أرقام. المدرسة تتحول إلى فضاء وجودي يربط بين المعرفة والتحرير، بين التعلم والهوية، بين الفرد والمجتمع.

 

العقد التربوي الجديد: بوابة الكينونة والحرية

في هذا المشهد المركّب والمعقد، يصبح التفكير في عقد تربوي جديد ضرورة فلسفية ووجودية. فالعقد ليس وثيقة تنظيمية فحسب، بل ميثاق أخلاقي وسياسي، يعلن أن التعليم ليس خدمة عامة أو مشروعاً إدارياً، بل فضاء لإطلاق الإمكانات البشرية، وصياغة الوعي النقدي، وفتح أفق الحرية.

ويرتكز العقد التربوي الجديد على ثلاث مساحات متشابكة:

1. السيطرة على المعرفة: صياغة الذات، إنتاج السردية، تحرير المناهج، وإعادة تشكيل البنية الفكرية، لتصبح المعرفة أداة للوعي النقدي والاختيار الحر، لا مجرد وسيلة للقياس والسيطرة الخارجية.

2. السيادة على الفضاء التربوي: حماية المدرسة كمكان وطني أصيل، وضمان بيئة تعليمية حرّة ومفتوحة، تُصون العلاقات بين الفرد والمجتمع، وتؤسس لفضاء تربوي مستقل يعكس الهوية والكرامة.

3. السلطة الأخلاقية على المستقبل: بناء أجيال قادرة على خلق أفق جديد للحرية، صون الثوابت، وصياغة مستقبل يعترف بالكينونة الفلسطينية واستقلاليتها الجوهرية، حيث يصبح التعليم ممارسة فاعلة للتحرر والقدرة على الاختيار.

 

التمويل كجزء من العقد الاجتماعي

التمويل ليس مجرد بند مالي، بل عنصر جوهري في الاستقلالية التربوية. التمويل الدولي يحمل أحياناً منهجية ضبط بنية الفكر وفق إملاءات خارجية، مما يفرض على فلسطين تطوير نموذج تمويل مقاوم ومستقل:

• التحرّر من الهشاشة وبناء قدرة داخلية.

• المركزية الأخلاقية: كل دعم مالي يغفل الاعتراف بالحق الفلسطيني في الكينونة والتمكين يعتبر انتهاكاً للمعايير الأخلاقية، ويضع التعليم الفلسطيني في مواجهة القيم الإنسانية الجوهرية.

• الشراكة المجتمعية السيادية: المجتمع فاعل مشارك ليس عبر التبرعات فقط، بل كجزء من الأمن القومي.

• إنتاج بدائل وطنية في التكنولوجيا والمناهج والتطوير المهني لكسر التبعية.

العقد الاجتماعي الفلسطيني لا يكتمل بدون تمويل مستدام يعكس أولوية الإنسان على الأرقام، والاستقلال على الإدارة، والحق على السوق، والوجود على المشاريع. فهو ميثاق أخلاقي–سياسي يُعلن أن الفلسطيني قادر على إعادة بناء معناه وصياغة مستقبله، وتحويل التعليم إلى طريق نحو حياة كاملة التمكين.

ختاماً، في إطار هذا العقد التربوي الجديد، يتحول التعليم الفلسطيني إلى بوابة الوجود والاستقلال. فهو ليس مجرد مؤسسة، بل فضاء يربط الإنسان بأفقه التاريخي والوجودي، بين المدرسة والبيت والمخيّل الجمعي، ليشكّل تصورات نقدية قادرة على صون الهوية، واستعادة المعنى، وإطلاق إمكانيات المستقبل.

هنا، يتجاوز العقد الاجتماعي حدود الإدارة والسياسة التقليدية، ليصبح ميثاقاً للحرية والوجود، إعلاناً بأن الفلسطيني قادر على إعادة تشكيل ذاته ومعناه في مواجهة التفكيك، وأن التعليم هو الطريق نحو حياة متكاملة التمكين، رؤيا متجددة، وآفاق أمل مستمرة.

إغلاق