هكذا قوضت السلطة وحدة الفلسطينيين وأدوات تمثيلهم
رام الله- الشاهد| كتب طارق العمري.. كيف تحولنا من شعب إلى أفراد ؟ هل تعرفون كيف؟ وكيف قوضت سلطة أوسلو وحدة المجتمع؟ في زمنٍ كانت فيه فلسطين أكثر من جغرافيا محتلة، كانت فكرة، وهوية، ونبضاً مشتركاً يجمع الناس في القرى والمخيمات والمدن خلف حلم واحد، أتذكرون ذلك!؟ بعدها، وُلدت السلطة الفلسطينية لا كتحقيق لذلك الحلم، بل كانحرافٍ عنه. وُلدت لا من رحم الإرادة الجمعية، بل من صلب اتفاق مشروط، أُبرم باسم السلام ، لكنه حمل في طياته بذور الانقسام،،، لم تكن السلطة ابنة معاناة شعب، بل بنت صفقة دولية أُنجزت على عجل، دون عمق، دون ضمانات، ودون رجوع إلى نبض الشارع الذي دفع الدم ثمناً للكرامة،، هكذا بدأ الانفصال،،، لا عن الاحتلال فقط، بل عن الذات. لم تعد السلطة تجسد الشعب، بل راحت تُديره، وتقوم بترويضه لما يجعله يقبل بها،، ومن هنا، تبدأ القصة المريرة،،، كيف تحولنا من شعبٍ موحد إلى أفرادٍ متروكين بالعراء بلا غطاء سياسي أو أجتماعي، بعد عملية التفكيك!؟ 1.خيانة التمثيل: في اللحظة التي كان يُفترض فيها أن تكون السلطة الفلسطينية صوتَ الشعب وممثله في المحافل والنضال، تحولت إلى جهاز إداري ، لا يمثل، بل يضبط وفق خطة تفريغية. لقد ارتدت السلطة قناع التحرير حين وُلدت، لكنها سرعان ما خلعته تحت وطأة الالتزامات الأمنية التي فُرضت عبر اتفاق أوسلو،،وبذلك تكون قد تحولت من مشروع سياسي يُفترض أن يقود نحو التحرر، إلى مشروع أمني وظيفته إدارة السكان ، لا مقاومة المحتل، وبذلك تكون قد أصبحت تمثل نفسها، لا شعبها،، ففُككت أدوات التمثيل الشعبي واحدة تلو الأخرى: سُحقت النقابات المستقلة، جُردت الفصائل من حيويتها، وذُبح الحراك المدني تحت شعارات التنمية، بينما كان يُخنق في واقع الأمر. لقد احتكرت التمثيل، ليس دفاعاً عن الشعب، بل لتقييد صوته، لم يعد من الممكن الحديث عن تمثيل تعددي، أو حتى نقد علني دون ثمن، التمثيل هنا لم يخن فقط، بل استُخدم ضد من يُفترض أن يمثل، هكذا أصبح الشعب بلا لسان، وبلا وسيلة شرعية يُعبر بها عن نفسه، إنها خيانة التمثيل، لا بالقول، بل بالفعل. ٢. عقلية السيطرة لا الرعاية: منذ لحظاتها الأولى، لم تتصرف السلطة الفلسطينية كمنبثقة من إرادة شعب، بل كمن نُصِّب لإدارته وضبطه ، لم تكن عقلية الشراكة حاضرة في بنيتها ولا في ممارساتها، بل سادت عقلية السيطرة والتحكُّم، فالشعب لم يُعامل كمواطنين يشاركون في تقرير المصير، بل كرعايا تُدار شؤونهم من أعلى، دون مساءلة ولا مشاركة فعلية. فباتت السيادة مختزلة في قبضة أمنية، تَعتبر الأمن مقدسًا فوق الحرية، وتعتبر النظام أولى من مقاومة الاحتلال، وكل محاولة للخروج عن هذا الإطار تُوصم بالفوضى ، وكل رأي خارج السياق الرسمي يُعد فتنة ، وكل احتجاج يُقابل بالتخوين وربما القمع،، بهذا، جرى نزع الفاعلية السياسية من الفرد الفلسطيني، لا على يد الاحتلال، بل باسم المصلحة الوطنية. لقد وُئدت المشاركة، وخُنق الخيال السياسي، وأُعيد تشكيل الفلسطيني كمجرد كائن خاضع، لا بوصفه مواطنًا بل موضوعًا أمنياً،،يجب ضبطه وليس حمايته أو تحريره،،، لقد حولت هذه السياسة الممنهجة الفرد إلى مفعول به سياسياً وأسقطت فاعليته ، فأصبح محروماً من حقه في النقد، في الاعتراض، في المشاركة،، وما كان ينبغي أن يكون جهازًا حامياً، صار سلطة خائفة من شعبها، مستنفرة ضد صوته. ٣. تفكيك الروابط الجامعة: ما لم يقدر عليه الاحتلال ببنادقه وجدرانه، فعلته السلطة بأدوات ناعمة لكنها نافذة،، فالسلطة لم تأتِي كقوة غريبة أو أجنبية ظاهرة، بل كامتداد محلي يحمل ملامح الداخل، ويتكلم لغة الشعب ،، وهنا كانت خطورتها،، فحين تُضرب القطيعة من الداخل، تفكك ما لا يستطيع العدو كسره. ففي ظل خطاب وطني خارجي، مارست السلطة سياسة ممنهجة لتفتيت الروابط الجماعية التي شكلت نسيج الهوية الفلسطينية، فلم تعد المقاومة رابطًا، ولا الكرامة قاسماً مشتركاً، وبدل التضامن، ساد التنافس ،، وبدل (نحن)، صار (أنا)،، وسلاحها في ذلك لم يكن العنف دائماً، بل الامتيازات والمنافع والتوظيفات. من كان يعتصم في الميدان، صار ينتظر راتباً على مكتبه ، ومن كانت قضيته أكبر من ذاته، أُعيد تشكيل وعيه حول أناه ، حول مصلحته الشخصية ، لقد أصبحت المعايير نفعية، والولاء مشروطًا، وتحولت العلاقة مع الوطن من التزام وجودي إلى صفقة وامتيازات وأرباح،، بهذا التآكل الداخلي، لم نعد شعبًا متكاتفًا في وجه الاحتلال، بل أفرادًا متباعدين في ظل سلطة تمسك بخيوط اللعبة، وتُغذي هذا التفكك باسم الشرعية ولغة تبريرية تقتات على الوقت والمغالطات والسياسة المرحلية وكأن المطلوب منا مواجهة العالم لا مواجهة أنفسنا ولوقوف أمامها بما يليق بنا ، هذه السياسات لم تُجهز على الجسد الفلسطيني، بل أضعفت روحه المشتركة. ٤. قتل المعنى الوطني: لم يكن تفكيك الوعي مجرد صدفة، بل مشروعًا ممنهجًا،،أذكر ذلك جيداً فقد عشت في مرحلتين متناقضتين من حيث المشروع والمنهجية وكنت على شيء من الوعي بطبيعة الخطابين ، ما جعل كثير من الاراء تحدث لي صدمة على صعيد من نحن الآن والى أين نمضي!؟ نعم ، لقد أدركت السلطة أن السيطرة الحقيقية لا تكمن في القمع وحده، بل في إعادة تعريف المعاني ذاتها. وأنا هنا حولت أن أفهم فقد يكون قد فاتني أو غاب عني شيء،،، فوجدتهم يفرغون اللغة الوطنية من شحنتها الرمزية، وتحويلها إلى شعارات جوفاء تتردد في المهرجانات الرسمية ولاكني لم أراها تترجم بالواقع، بل ما كان يحدث عكسها تماماً. لقد صارت الوطنية وظيفة تُمنح، لا إحساسًا يُعاش ، ولا علم ندفع ثمنه مِن مصروفنا المعدوم ولا علبة شعارات نستلف ثمنها، لقد صار الشهيد لقبًا إداريًا، لا حالة وجودية تنبع من التضحية والإيمان. أما المقاومة، فغدت إشكالًا أمنيًا بدل أن تكون شرفًا جماعيًا ، ومع الزمن، بدأ الشعب يفقد حس البوصلة، لأن اللغة التي لطالما وجهته أُفرغت من المعنى،، وأنا كنت شاهد على التحولات التي حدثت بين مرحلتين متجاورتين من النقيض إلى النقيض. السلطة لم تقتل الجسد المقاوم فقط، بل عملت على تجويف الرموز ومن ثم تشويهها وتشكيك بها ، من يوم الأرض إلى الانتفاضة، ومن النكبة إلى الشهداء، كل شيء أصبح مؤطرًا ببرنامج رسمي لا يُسمح بتجاوزه،، ولمن له عقل وذاكرة أن يستعيد ملامح المرحلتين ،، هكذا تحولت الذكرى إلى مناسبة، والألم إلى نشيد، والحق إلى ملف تفاوض. بهذا الشكل، لم يعد المواطن يقف على أرض صاحبة خطاب واحد، كنا نسمع بداخلنا اضطراباً وحيرة فنحن بين خطابين يعصف كل منهما في اتجاه ، واحياناً كنا نتوه بين لغة رسمية تُفرغ الذاكرة من قوتها، وواقع يمارس نقيضها،، والنتيجة: تكلس في الشعور الجمعي، وانفصال بين الانتماء والممارسة،، وهكذا، لم تَقتل السلطة الناس فقط، بل قتلت ما يجعلهم شعبًا،، ما يجعلهم لحمة واحدة،، ولكن الراتب يحارب على جميع المستويات. ٥. الانزلاق إلى الفردانية والعزلة ما كان قد بدأ كتحول إداري في بنية السلطة، انتهى بتحول أنثروبولوجي في طبيعة الفلسطيني نفسه،، لم يعد الفلسطيني ينظر إلى ذاته بوصفه جزءًا من نسيج مقاوم أو مجتمع نضالي، بل كفرد معزول في سباق يومي من أجل البقاء، فحين يصبح البقاء هو الغاية، يتآكل المعنى، وتتلاشى الروابط يا صديقي. فالسلطة ، بتفكيكها المنظم للعلاقات الأفقية، زجت كل فرد في زنزانته الخاصة. وظيفة مرهونة بولاء، معونة مربوطة بالطاعة، مستقبل مرهون بالصمت،،وووو،،، من كان يشعر أن نجاته مرتبطة بجاره، صار يشعر أن هذا الجار قد يزاحمه على فرصة النجاة،، وهكذا حل التنافس مكان التعاون، والريبة محل الثقة. لم تعد هناك قضية تجمع، بل قضايا فردية تفرق،، لقد تحولت القضية يا صديقي إلى شعار خارجي، بينما الحياة اليومية صارت معركة خفية من أجل الراتب، العلاج، التصريح، أو الخروج من القائمة السوداء. القائمة السوداء كانت شرفنا ذات كرامة،،، هذا الانزلاق لم يأتِ من فراغ، بل من تفكيك متعمد لكل ما كان يحفظ الشعور الجمعي، الحي، المخيم، المدرسة، وحتى الأغنية،، لقد أصبح الفلسطيني يعيش غربته في وطنه، ويجابه الاحتلال والسلطة وهو أعزل، لا فقط من السلاح، بل من الجماعة ، وهذه العزلة، أخطر من أي جدار. ٦. تفكيك البُنى المجتمعية: كان المجتمع الفلسطيني ينبض بحيوية المؤسسات المحلية، الجمعيات، الحركات السياسية، والنخب المثقفة التي شكلت العمود الفقري للنضال والتعبير الشعبي ،، لكن سلطة أوسلو، بدل أن تعزز هذه البنى، عملت على احتوائها وتحويلها إلى أذرع في خدمة مشروعها، بعيداً عن روح المقاومة والمساءلة، لقد تم إضعاف المؤسسات عبر السيطرة على تمويلها، وتحويل دعمها إلى وسيلة للولاء، لا للنضال،، والأحزاب السياسية، التي كانت تمثل طيفاً واسعاً من المجتمع، وجدت نفسها مقيدة، مفككة، أو مخترقة، حتى صار النشاط السياسي مرهوناً برضا السلطة،، لقد أوصلونا هنا إلى الرقابة الذاتية،، هذا التفكيك لم يؤثر فقط على الهيئات الرسمية، بل هز ثقة الناس في إمكانيات التغيير والتجمع ، فقد ضاعت القدرة على التنظيم الشعبي المستقل، وتحولت الفاعلية الاجتماعية إلى نشاطات فردية، تتجنب المواجهة، وتلتزم بالحد الأدنى من المشاركة. هكذا، لم يبقَ إلا مجتمع هش، يتلاشى بين سلطة مركزية متحكمة ومجتمع مدني منهك، تُفقد فيه القدرة على الاحتجاج، وعلى بناء بدائل حقيقية للهيمنة والاحتلال، مجتمع لا يدير نفسه، بل يُدار، ويُشرف عليه، ويُجهز لم هو أسوء من ذلك. ٧. السلطة لا ترى أمنها في وحدة الناس: حين تُمس وحدة الشعب، يتزعزع أساس قوته ووجوده، وهذا ما أدركته السلطة جيداً،، فقد وجدت في تفتت الناس مخرجاً لبقائها، ونجاةً لمشروعها الهش، لم تعد الوحدة مصدر قوة وحماية، بل أصبحت عبئاً ومخاطرة تهدد استمراريتها. لذا، اختارت السلطة أن تُبدع في فنون التفكيك: تفرقة الجماهير، إذابة الروابط، تشتيت الطاقات، وتحويل المواطن من فاعل اجتماعي إلى فرد منعزل يخشى ويصمت،،لم تعد المواجهة الجماعية خياراً، بل أصبح الأمن يرتبط بإدارة الانقسام والتقسيم، وبناء وعي جديد يكرس الخضوع والانغلاق. في هذه اللعبة القاسية، لم يعد الشعب هدفاً للتمكين أو التحرير، بل حقل تجارب لإدامة سلطة تحمي نفسها عبر تفكيك نفسها. ٨. الاحتلال اليوم لا يواجه شعباً، بل أفراداً: هنا تكمن المأساة الكبرى، فالاحتلال لم يعد يواجه جبهة واحدة متماسكة من شعب صامد، بل وجوهًا متفرقة، أشخاصًا متعبين، معزولين، يُصارعون وحدهم في مواجهة آلة القمع. لم يعد هناك ذلك الرابط الجماعي الذي يشد الأيدي ويوحد القلوب، ذلك الحبل السري الذي يحول الألم إلى مقاومة، والضحية إلى قوة تنبض بالأمل. نجاح الاحتلال اليوم لا ينبع من تفوقه العسكري، بل من نجاحه في زرع بذور التفكك بيننا، في تفتيت اللحمة التي كانت تصنع من الفلسطيني أكثر من مجرد فرد، بل كيانًا موحدًا لا ينكسر بسهولة،، وهذا التفتت هو ما جعله أقوى، لأنه يواجه مشاعر الخوف والعجز الفردي، لا إرادة جماعية موحدة. حين يتحول الشعب إلى أفراد، يصبح القمع أسهل، والمقاومة أخطر على التشتت، والاحتلال أكثر قدرة على فرض سيطرته بلا معاناة حقيقية، هذا هو الثمن الباهظ لتفكيك الوحدة، وللتحول من كيان جماعي إلى فسيفساء من الأرواح المنكفئة… حين يصبح المشروع في الداخل أخطر من العدو في الخارج ،، فلا مبالغة في القول إنّ أثر السلطة خلال الثلاثين سنة الماضية تجاوز في تخريبه ما لم يستطع الاحتلال تحقيقه عبر عقود من الزمن ،،لأن العدو كان واضحًا لنا، عدوٌ نعرفه ونواجهه، أما السلطة فقد تسللت بهدوء إلى أعماق وجداننا تحت غطاء الشرعية ، فوجهت ضربة قاتلة من الداخل، وأخطر الضربات تلك التي تأتي باسمك، لا باسم عدوك. اليوم، لم يعد كافياً مقاومة الاحتلال فقط، بل علينا أن نعيد بناء ذاتنا كشعبٍ واحد، فالتحرر الحقيقي يبدأ عندما نعرف من نحن، لا فقط حين نبحث عن من يضطهدنا،، فمن نحن اليوم ؟ وماذا نريد أن نكون؟.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=90750