حين يصبح الموت أهون من النزوح.. غزة بين الإبادة والتهجير القسري

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني وسيم وني، مقالاً حول جريمة النزوح المستمرة لأهالي قطاع غزة، وسط حمم الصواريخ والقذائف التي تتساقط على مدار الساعة على سكان قطاع غزة، وفيما يلي نص المقال.
في غزة اليوم كما كل يوم لم يعد الموت خياراً مفروضاً بقدر ما أصبح أهون الشرّين ، فحين تُحاصر العائلات بين نارين: البقاء تحت حمم القصف وآلة القتل التي لا ترحم أو النزوح نحو المجهول بتكاليف تعجيزية وتفوق قدرتهم المالية، ندرك أن المأساة خرجت من إطار الكارثة الإنسانية إلى جريمة منظمة ضد الإنسانية و لم يعد النزوح مجرّد انتقال جغرافي، بل عملية اقتلاع قسري تُدار بوحشية وإرهاب قادة الاحتلال وصمت دولي مريب يغض الطرف عن هذه الجرائم ، حيث يُطلب من الضحايا أن يدفعوا ثمن البقاء أحياء، في واحدة من أبشع صور الابتزاز الإنساني في تاريخ البشرية.
نزوح بتكاليف خيالية
لم يعد قرار النزوح من مدينة غزة نحو الوسط أو الجنوب مرتبطاً فقط بالقصف العنيف واستحالة البقاء في المدينة، بل أصبح عبئاً مادياً يفوق طاقة أبناء شعبنا الفلسطيني، بعد عامين من حرب الإبادة لم يعد بإمكان الأسرة الفلسطينية أن توفر حتى وجبة طعام يومياً تسد الرمق ، فكيف يمكنها أن تغطي نفقات النزوح التي تصل إلى آلاف الدولارات؟.
إعلام العدو الإسرائيلي والذي لا يخجل من نفسه كونه سبب هذه الكارثة والمأساة التي حلت بشعبنا الفلسطيني (القناة 12 العبرية ) نفسها كشفت أن نزوح عائلة واحدة يكلف ما يقارب 20 ألف شيكل (6200 دولار أمريكي)، تشمل تكاليف النقل، استئجار أرض لنصب خيمة، بناء مرحاض، وشراء مستلزمات إضافية مثل براميل المياه ، وهنا المفارقة المؤلمة أن هذه التكلفة تكفي قبل الحرب لبناء طابق جديد في منزل وبشكل مميز، أما اليوم فهي ثمن “حياة في الشارع” بلا سقف ولا جدران .
هذا الواقع حوّل عملية النزوح إلى رحلة “فانتازيا قاسية” كما يصفها الناس: تخرج من بيتك ومسكنك وأحلامك وذكرياتك ومولدك، لتجد نفسك على قارعة الطريق، مضطراً لدفع ثمن باهظ مقابل حياة لا تشبه الحياة فقط هرباً من الموت الذي يحيط بهم من كل صوب.
مأساة تتكرر آلاف المرات وبشكل يومي
لقد صار النزوح عند أبناء شعبنا الفلسطيني في غزة خياراً قسرياً لا يملكونه، رحلة مليئة بالإذلال والدموع، رحلة تُدفن فيها الخيام كما تُدفن البيوت تحت الركام حتى أصبحت صورة عامة تتكرر عشرات آلاف المرات مع كل عائلة دفعتها آلة الحرب لمغادرة بيتها بحثاً عن أمان لم تجده.
الاحتلال بين الإبادة والتهجير القسري
ما يجري في غزة ليس نزوحاً طوعياً، بل تهجير قسري منظم، وهو جريمة يعاقب عليها القانون الدولي فبموجب القانون الدولي الإنساني يُحظر على القوة القائمة بالاحتلال تهجير المدنيين قسراً تحت التهديد أو القصف ، وهنا تقع على الاحتلال مسؤولية حماية المدنيين وضمان وصول الغذاء والماء والمأوى والخدمات الأساسية لهم ،ويصنف فرض النزوح بهذه الطريقة، تحت القصف والقتل العشوائي ووسط انعدام المقومات الإنسانية، على أنه جريمة ضد الإنسانية قد تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية.
القوانين الدولية واضحة:
• المادة (49) من اتفاقية جنيف الرابعة تحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للمدنيين من الأراضي المحتلة.
• المادة (7) من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تدرج الترحيل القسري ضمن الجرائم ضد الإنسانية.
• ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان يكفلان الحق في الحياة والسكن والكرامة الإنسانية.
إن الاحتلال بممارساته يخرق كل هذه النصوص، ويمارس جريمة مركبة: قتل ممنهج وتهجير قسري، في وقت يفرض فيه حصاراً شاملاً يمنع وصول الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
عجز داخلي وصمت دولي
في غرب النصيرات، فتح بعض الأهالي أراضيهم الزراعية للنازحين مجاناً ، لكن سرعان ما امتلأت تلك الأراضي بالخيام، وتحولت المبادرات الفردية إلى عجز جماعي أمام أعداد النازحين المتزايدة. لم يعد هناك مكان شاغر، فعاد كثيرون أدراجهم إلى غزة مفضلين الموت في بيوتهم على الموت في العراء.
هذا المشهد يكشف عجز الداخل وصمت الخارج معاً شعبنا الفلسطيني يُذبح ويُهجّر، بينما العالم يرى هذه المأساة ولا يحرك ساكناً فالمؤسسات الدولية تتحدث عن “مساعدات إنسانية” في وقت يتعرض فيه أبناء شعبنا لجرائم إبادة وتهجير قسري، دون وجود أي إجراء فعلي لوقف هذه المأساة أو محاسبة الاحتلال وقادته .
مسؤولية التوثيق والمساءلة
التوثيق هنا ليس ترفاً إعلامياً بل واجب قانوني وأخلاقي ، الشهادات، الصور، الأدلة الطبية، التسجيلات الميدانية، كلها أدوات لا بد أن تُجمع لتشكل ملفات قابلة للمساءلة أمام محكمة الجنايات الدولية وغيرها من الهيئات المختصة.
كما إن التهجير القسري والإبادة الجماعية جرائم لا تسقط بالتقادم، ومن واجب المؤسسات الحقوقية الفلسطينية والعربية والدولية أن تتابع، وتبني قضايا محكمة، وتضغط باتجاه تفعيل آليات المساءلة والمحاسبة، كما أن المجتمع الدولي — بصمته أو تقاعسه — يتحمل شراكة أخلاقية وسياسية في استمرار هذه الجريمة.
ختاماً ما يحدث في غزة ليس قدراً ولا كارثة طبيعية، بل جريمة ممنهجة ومنظمة مكتملة الأركان،أن يُطلب من الفقراء والجائعين أن يدفعوا ثمن النزوح ليبقوا أحياء، بينما تُستباح حياتهم وكرامتهم، فهذا امتحان أخلاقي وقانوني للعالم بأسره، التاريخ لن يرحم الصامتين، والقانون لن يسقط جرائم الاحتلال بالتقادم.
إن الحق في الحياة والكرامة ليس امتيازاً يُشترى، بل حق كوني ثابت لا تسقطه حرب ولا يلغيه حصار،إننا نكتب لنشهد، ونشهد لنحاكم، ونحاكم كي لا يُترك أطفالنا في غزة بلا مأوى، ولا يظل خيار الموت أهون من النزوح.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=94313