ما بعد أوسلو: من تفكيك الهوية إلى مقاومة الإبادة والتهجير

رام الله – الشاهد| كتب مازن الجعبري: بعد أكثر من ثلاثة عقود على توقيع اتفاق أوسلو، لم يعد من الممكن التعامل مع هذا الاتفاق كإطار سياسي قابل للاستمرار أو الإصلاح، لقد شكّل أوسلو نقطة تحول خطيرة في مسار القضية الفلسطينية حيث تم التخلي عن برنامج التحرر الوطني لصالح منطق الإدارة المحدودة، واستُبدل المشروع السياسي الجامع بمنظومة تفاوضية عقيمة أفرغت القضية من مضمونها، وحوّلتها إلى ملف إداري وامني يخضع لرقابة الاحتلال ورعاية القوى الدولية.
لا يمكن إنكار أن أوسلو، في لحظته الأولى، أتاح للفلسطينيين اعترافًا دوليًا بوجودهم السياسي، وفتح الباب أمام الحديث عن دولة فلسطينية، ولو على جزء من الأرض. كما ساهم في إعادة حضور القضية الفلسطينية إلى المنابر الدولية بعد سنوات من التهميش.
إلا أن هذا الاعتراف جاء مشروطًا، ومفرغًا من أدوات السيادة، وتحول لاحقًا إلى غطاء لإدارة الاحتلال بدلًا من مواجهته. السلطة الفلسطينية، التي نشأت كنتاج لاتفاق مرحلي، تحولت تدريجيًا من كونها جزءًا من منظمة التحرير إلى كيان مستقل يهيمن عليه فصيل واحد، أعاد إنتاج النموذج السلطوي في السيطرة على مفاصل الحياة الفلسطينية، وأعاد تشكيل منظمة التحرير كأداة شكلية بيد الفصيل الحاكم ، بدلًا من أن تكون إطارًا جامعًا للشعب الفلسطيني داخل الوطن والشتات.
وفي السياق ذاته، يأتي الاعتراف الدولي الأخير بالدولة الفلسطينية مؤخرا من قِبَل عدد من الدول الأوروبية واللاتينية ليؤكد أن قضية فلسطين ما زالت حاضرة في الضمير العالمي، وأن الرواية الإسرائيلية لم تعد مهيمنة كما في السابق. هذا الاعتراف يشكل من جهة رصيدًا سياسيًا ومعنويًا للفلسطينيين، ويكشف حجم العزلة التي تعانيها إسرائيل في المؤسسات الدولية.
لكنه من جهة أخرى يبقى اعترافًا ناقصًا، مشروطًا، لا يغير من واقع الاستعمار الاستيطاني على الأرض، ولا يوقف سياسات الإبادة والتهجير الجارية في غزة والضفة. إن التعامل مع هذا الاعتراف ينبغي أن يكون كأداة لتعزيز النضال الشعبي والدبلوماسي، لا كبديل عن مشروع التحرر الوطني، أو كغطاء لاستمرار بنية أوسلو والسلطة الوظيفية.
لقد تصرفت القيادة الفلسطينية وكأن لدينا دولة، بينما الواقع أن السلطة ليست سوى سلطة اتفاقية، محدودة الصلاحيات، مرتبطة وظيفيًا بالاحتلال، وتابعة سياسيًا لأنظمة إقليمية ودولية. هذا التصرف عزز الوهم السياسي، وكرّس الانقسام، وأدى إلى تهميش القضية الوطنية لصالح قضايا معيشية وخدماتية، بينما تم التضحية بمؤسسات الشعب الفلسطيني وتحويلها إلى مصادر للرزق، بدلًا من أن تكون أدوات للتحرر والتمكين.
القرار الفلسطيني المستقل، الذي كان أحد أعمدة المشروع الوطني، أصبح مرتهنًا للممولين، وللوسطاء، وللمنظومة الدولية التي لا تعترف بحقوقنا إلا ضمن شروطها الخاصة.
التنسيق الأمني مع الاحتلال، والتنسيق السياسي مع أنظمة عربية معادية لتحرر الشعب الفلسطيني، وخاصة تلك التي طبّعت وتعاونت مع الاحتلال، يُعد من أكبر الجرائم السياسية والأخلاقية بحق شعبنا.
هذه الأنظمة، التابعة للإمبريالية الأمريكية، لا تمثل عمقًا قوميًّا أو دعمًا حقيقيًا، بل تشارك في حصار الفلسطينيين، وتعيد إنتاج الاستعمار بأدوات جديدة. من يصرّ على هذا الواقع، ويدافع عنه، ويستفيد منه، إنما يفعل ذلك بدافع مصالحه الفئوية والشخصية، ويعمل ضد مصالح الشعب الفلسطيني، وضد مستقبله، وضد كرامته.
ولا يمكن تبرير الانفصال السياسي أو الادعاء بخصوصية البرنامج في أراضي ٤٨ أو في الساحات العربية، فكل من ينتمي إلى هذا الشعب هو جزء من مصيره، من قضيته، من نكبته، ومن نضاله. لا توجد خصوصيات تبرر الانفصال أو الحياد، ولا ظروف تسمح بالانفكاك عن المشروع الوطني الجامع.
إن ما يجري في غزة منذ أكتوبر 2023، وما تلاه من تدمير ممنهج للبنية المجتمعية الفلسطينية، يكشف بوضوح أن الولايات المتحدة لم تعد مجرد وسيط منحاز، بل طرفًا مباشرًا في الحرب، يقود تحالفًا دوليًا لإنهاء القضية الفلسطينية، ويعيد إنتاج المنظومة الاستعمارية بأدوات أكثر عنفًا وشرعية زائفة. هذا التحالف لا يقتصر على أمريكا، بل يشمل دولًا أوروبية مركزية مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهنغاريا، التي لم تكتفِ بالصمت، بل قدّمت دعمًا سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا للإبادة، وشاركت في إعادة صياغة الخطاب الدولي حول فلسطين، بحيث يتم تصوير الضحية كمعتدٍ، والمعتدي كضحية.
لقد فشلت المنظومة الدولية، بما فيها القانون الدولي، في حماية الشعب الفلسطيني، بل تحولت إلى أداة لتبرير الجرائم، وتوفير الغطاء القانوني لها.
المؤسسات الدولية، من الأمم المتحدة إلى محكمة العدل الدولية الى المحكمة الجنائية الدولية، أثبتت عجزها البنيوي، وانحيازها السياسي، وعدم قدرتها على فرض أي مساءلة حقيقية على الاحتلال أو داعميه.
هذا الفشل لا يعكس فقط خللًا في آليات العدالة الدولية، بل يكشف عن تواطؤ منظومة كاملة، تشمل الحكومات، والمؤسسات الأكاديمية، والشركات، والمنظمات غير الحكومية، التي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في البرنامج الاستعماري في فلسطين.
على سبيل المثال، جامعة كولومبيا في نيويورك واجهت مؤخرًا انتقادات واسعة بسبب تعاونها البحثي مع شركات تكنولوجيا أمنية إسرائيلية، تُستخدم منتجاتها في مراقبة الفلسطينيين، وهو نموذج واضح لتورط مؤسسات أكاديمية في دعم البنية الاستعمارية.
في ظل هذا الواقع، لم يعد ممكنًا الحديث عن حل سلمي مع الحركة الصهيونية، التي أثبتت عبر عقود أنها ليست حركة سياسية قابلة للتفاوض، بل مشروع استيطاني إحلالي، قائم على الإبادة والطرد والإنكار.
هذا المشروع لا يعترف بوجود الشعب الفلسطيني، ولا بحقوقه، ولا بإنسانيته، بل يسعى إلى محوه الكامل، بدعم مباشر من القوى الغربية. إن إعادة تعريف الهوية الفلسطينية باتت ضرورة وجودية، لا خيارًا سياسيًا. هذه الهوية يجب أن تُبنى على أساس المقاومة، والعدالة، والكرامة، وعلى ارتباط عضوي مع نضالات الشعوب الأخرى، لا على تحالفات شكلية مع أنظمة فقدت شرعيتها، وتخلّت عن شعوبها، وتواطأت مع الاستعمار.
وفي ظل موجات الاحتجاج العالمية التي خرجت دفاعًا عن غزة، ورفضًا للإبادة، بات واضحًا أن القضية الفلسطينية لم تعد محصورة في جغرافيا أو قومية ضيقة، بل أصبحت قضية إنسانية كونية، تمس الضمير العالمي، وتكشف زيف المنظومة الدولية.
هذا البعد الإنساني يجب أن يتحول إلى جزء جوهري من الهوية القومية الفلسطينية، لا أن يُختزل في مفاهيم قومية مرتبطة بدول مفككة، تابعة، ومعادية للتحرر.
إن الهوية الفلسطينية لا تُعرّف من خلال علاقات رسمية مع أنظمة منهارة، بل من خلال ارتباطها العميق بالعدالة، وبالتحرر، وبالإنسانية، وبالقدرة على مواجهة الاستعمار بكل أشكاله، وبالانتماء إلى شعب واحد، له قضية واحدة، ومصير واحد.
ورغم النقد الحاد لاتفاق أوسلو والمنظومة السياسية التي نشأت عنه، فإن تجاوز هذا الواقع لا يكون فقط برفضه، بل ببناء بدائل عملية تنطلق من الواقع الاستعماري القائم.
المطلوب ليس مؤتمرات شكلية أو شعارات عامة، بل إعادة تفعيل أدوات الفعل السياسي الشعبي، وتطوير شبكات التضامن العالمية، وتحرير المؤسسات الفلسطينية من التبعية، وتوجيهها نحو خدمة مشروع التحرر. إن المقاومة ليست فقط فعلًا ميدانيًا، بل رؤية شاملة تعيد بناء الوعي، وتربط الفلسطينيين في كل أماكن وجودهم بمشروع سياسي واحد، يتجاوز الجغرافيا، ويستعيد المعنى الحقيقي للهوية الوطنية.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=94684