سلطة محمود عباس وقضية الأسرى

سلطة محمود عباس وقضية الأسرى

رام الله – الشاهد| كتب راغدة عسيران.. منذ بداية الزحف الاستيطاني الصهيوني إلى فلسطين وإقامة الكيان الإرهابي، اعتقل الصهاينة مئات آلاف الفلسطينيين (تشير إحصائيات لاعتقال ما يقارب نصف مليون فلسطيني بين 1967 و2005)، ثم من العرب والمسلمين الذين أدّوا واجبهم الوطني والإنساني، والأجانب المتضامنين مع أخوانهم الفلسطينيين. اعتُبرت قضية الأسرى الفلسطينيين قضية وطنية جامعة للشعب الفلسطيني، مرّت بمراحل كثيرة، ولكل مرحلة تفاصيلها وشهداءها وأبطالها. وشهدت تطورات إيجابية بمعنى الاعتراف ببعض حقوق الأسرى بعد نضال وتضحيات، أو انتكاسات مميتة أحيانا بمعنى سلب الحقوق وتشديد القمع.

منذ بداية حرب الإبادة الهمجية التي شنّها العدو الصهيوني ضد أهل قطاع غزة، مدعوما من الدول الغربية وغيرها في العالم، تم اختطاف عشرات الآلاف من الفلسطينيين من قطاع غزة من كافة الأعمار وزجّهم في السجون والمعسكرات الاعتقالية السرية والعلنية، ومن الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، حيث كان الاعتقال ممارسة قمعية يومية قبل حرب الإبادة، وخاصة خلال المواجهات الشعبية والانتفاضات المتتالية الداعمة للمقاومة والرافضة للاستسلام.

منذ السابع من أكتوبر 2023، تنكّرت الدول الغربية والمؤسسات العالمية التابعة لها، ومن بعدها معظم الدول العربية والإسلامية، للأسرى الفلسطينيين الذين يذوقون كل أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي التي انتجتها الوحشية الاستعمارية الغربية وأكثر، واكتفوا في كل تصريحاتهم الاستفزازية، الحديث عن “الرهائن” (الأسرى الصهاينة بيد المقاومة الفلسطينية) مطالبين المقاومة بتحريرهم “الآن وبدون شرط”، أي الاستسلام أمام الوحشية الصهيونية وترك عشرات الآلاف من المخطوفين الفلسطينيين في سجون العدو، حيث بات التعذيب الوحشي والتجويع والقتل والإهانة وتفشي الأمراض يشكلون نمطا من الإبادة داخل السجون.

أن لم يكن مستغربا دعم الاستعمار الغربي (الولايات المتحدة الأميركية والثالوث الأوروبي خاصة : ألمانيا، بريطانيا وفرنسا) حرب الإبادة في غزة وأنواع من الحروب الهمجية في باقي الأراضي المحتلة وإنكاره لحقوق الشعب الفلسطيني وللمختطفين والأسرى، كيف يمكن فهم موقف سلطة محمود عباس من الأسرى والمعتقلين والمختطفين الذين يعدّون بعشرات الآلاف من المواطنين، قبل وخلال حرب الإبادة الجماعية الصهيو-أميركية ؟ في الوقت الذي تقوم فيه المقاومة بجهود جبارة لتحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون العدو، باختطاف جنود صهاينة لمبادلتهم بالأسرى، تدين سلطة محمود عباس عمليات المقاومة، بما فيها خطف الصهاينة، وتعتبرها “إرهابا”، مستعيرة مصطلحات العدو الصهيو-أميركي ومن يتبعه في العالم العربي والإسلامي.

خلال حرب الإبادة على قطاع غزة وقبلها، لم ينطق محمود عباس بكلمة واحدة مطالبا كيان العدو بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وكأنهم لا ينتمون الى الشعب الفلسطيني، وعلى المنابر الدولية التي توجّه اليها من أجل إدانة المقاومة الفلسطينية، لم يلفت نظر العالم الى عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين باتوا رهائن بيد الصهاينة. فلم يتغيّر موقف رئيس سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية المنتهية صلاحيته، من قضية الأسرى، منذ توليه السلطة في العام 2005. يمكن متابعة موقف السلطة إزاء الأسرى من خلال ثلاث نقاط :

1 – – الاستسلام أمام الضغط الصهيو-غربي لإنهاء قضية الأسرى سياسيا وماليا

استسلمت سلطة محمود عباس أمام الضغوط الصهيو-غربية التي طالبت بشطب رسميا كل ما يتعلق بقضية الأسرى، مقابل استمرار تمويل الأجهزة الأمنية. فألغت وزارة الأسرى والمحررّين واستبدلتها ب”هيئة شؤون الأسرى”، لفصل قضية الأسرى الوطنية عن الحكم الرسمي، كرسالة أولية للمجتمع الفلسطيني بتنصّل السلطة من قضيته، التي لم تعد ذات أهمية في مسار التسوية. لكن لم يكتف الصهاينة بهذا الإجراء، فشنوا هجوما مسلحا على البنوك الفلسطينية ومنعوها من فتح حسابات مصرفية للأسرى وعائلاتهم، في محاولة لعزلهم عن النسيج المجتمعي الفلسطيني.

بينما كانت الجمعيات الدولية المموّله من قبل الغرب الاستعماري ترفض توظيف الأسرى المحرّرين، بسبب تاريخهم النضالي ضد الاحتلال، رضخت السلطة للإملاءات الخارجية حين ميّزت بين الأسرى المحرّرين (قبل “طوفان الأقصى”) ورفضت دفع مستحقات بضعهم لأسباب سياسية وحاولت عزلهم وعزل عائلاتهم عن المجتمع الفلسطيني.

وكان آخر فصل في هذا النهج الإقصائي والمتنكّر لقضية الأسرى التمييز بين الأسرى المحرّرين وعائلاتهم وفقا لوضعهم الاجتماعي، وليس كما كان معمولا سابقا وتاريخيا وفقا لسنوات تضحياتهم من أجل القضية الوطنية، ما يعني سياسيا إلغاء وتصفية قضية الأسرى كقضية وطنية جامعة لها أهميتها السياسية قبل الاجتماعية والإنسانية.

رغم كل هذا التنازل والاستسلام أمام الصهاينة وداعميهم، ما زال يرفض كيان العدو التعامل مع السلطة ويكرّر تهديداته لها.

2 – – ممارسة الاعتقال السياسي في الضفة الغربية

لم تتوقف الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة عن اعتقال الفلسطينيين في الضفة الغربية لأسباب مختلفة، إبداء آرائهم على منصات التواصل الاجتماعي دعما للمقاومة أو رفضا للفساد واحتكار السلطة أو مشاركتهم في وقفات داعمة لأهل غزة، ولمنع المقاومين من أداء واجبهم الوطني.

لم تتوقف هذه الأجهزة عن التعاون مع المحتلين الصهاينة، فواصلت ما يعرف بسياسة “الباب الدوار” حيث تفرج عن معتقلين سياسيين ليتم اعتقالهم بعد ساعات من قبل قوات الاحتلال، كما حصل قبل أسابيع مع المواطنين خضر حوتري، وعلي دمياطي ومحمود تيتان وجمال تيتان، بعد تسعة أشهر من الاعتقال بتهمة “حيازة أسلحة وأموال” ليتم اعتقالهم من قبل العدو فور الإفراج عنهم. واعتقلت قوات العدو أربعة مقاومين من حركة الجهاد الإسلامي في طولكرم بعد يوم من الإفراج عنهم من سجون السلطة، حيث قضوا عشرة أشهر بتهمة “تشكيل خلية عسكرية”.

إلا أن الأفظع والأخطر في ممارسات سلطة محمود عباس وأجهزتها الأمنية هو التعامل مع الأسرى في سجونها. لقد أصدرت لجنة أهالي المعتقلين السياسيين عدة بيانات تحمّل السلطة المسؤولية الكاملة عن حياتهم وسلامتهم، في ظل التعذيب الممنهج للمعتقلين وتوجيه الإهانات لهم وإذلالهم، تماما كما يتصرّف كيان العدو، حيث يبدو أن المعلّم واحد والمدرسة واحدة.

إضافة الى هذا التوحّش، تم اغتيال معتقلين لديها (استشهاد أحمد أبو نعاج – الصفوري – من مخيم جنين، في يوم 1/6/2025 إثر تعرضه لتعذيب ممنهج)، والذي نعته حركة الجهاد الإسلامي، مؤكدة أنه من أبطال كتيبة جنين، وكان قد أمضى خمس سنوات في سجون الاحتلال الإسرائيلي قبل اعتقاله من قبل أجهزة السلطة. أكدت الحركة في بيان أن ذوي الشهيد أبلغوا عن “تعرضه للتعذيب والمعاملة القاسية” التي أدت لاستشهاده، منتقدة رفض السلطة تسليم الجثمان وإدعاءها انتحاره.

تفتخر أجهزة السلطة بممارساتها بحق المعتقلين الفلسطينيين، وقد وثقت بعضها ونشرتها لترهيب المجتمع الفلسطيني وإظهار لمموّليها الأجانب مدى استعدادها لقمع مجتمعها الرافض للاستسلام. لكنها ذهبت أبعد من ذلك وشرعت في تصفية حسابات سياسية داخل السلطة، عندما اغتالت العقيد عمار دار موسى، ضابط قديم في الأمن الوقائي والاستخبارات، الذي خدمها خلال ثلاثة عقود من الزمن، بسبب خلافات داخلية مع حسين الشيخ، ومنعت عنه الدواء والعلاج بعد حملة تعذيب مروّعة كما نقلت عائلته.

3 – – محاولات شق صفوف الأسرى وإضعاف نضالاتهم ضد السجان الصهيوني قبل “طوفان الأقصى” والضغط على المحررّين وابتزازهم

ساهمت سلطة محمود عباس بتوتير الأجواء بين الأسرى في السجون الصهيونية، قبل معركة “طوفان الأقصى”، وإفشال نضالاتهم الموحّدة وإضرابهم عن الطعام مرات عديدة، بشق صفوف أسرى حركة فتح بين الموالين للسلطة وباقي الأسرى الذين يمثلون الخط الوطني في المجتمع الفلسطيني. لقد بثت جهات مقرّبة من طاقم محمود عباس الإشاعات المختلفة ضد الأسير مروان البرغوثي تحديدا، والذي تعتبره السلطة تهديدا شعبيا لها في حال تم الإفراج عنه من السجون الصهيونية.

وبعد تحرير بعض الأسرى خلال عملية “طوفان الأحرار”، حاولت السلطة شق صفوف أسرى حركة فتح وغيرهم من الأسرى المحرّرين، عبر اقصاء بعضهم عن الحركة (الأسير المحرر فخري البرغوثي مثلا لأنه رفض إدانة المقاومة) أو تقديم بعض التسهيلات لآخرين لجذبهم الى جانبها (المساعدات الطبية مثلا). ثم جاء مؤخرا في 20/9/2025 بيان اللجنة العليا للأسرى المحررين المبعدين الى القاهرة ليؤكد أن حملة التهديد والابتزاز الصادرة عن “خفافيش الأجندات المشبوهة والجهات المتواطئة مع الاحتلال ضد قضيتنا الوطنية” لم تتوقف. تطالب هذه الجهات المشبوهة من المحرّرين إدانة المقاومة. لكن جاء الرد على هذه المحاولات المشبوهة بالتأكيد على “أننا باقون على نهج المقاومة والنضال”… و”أن محاولات التفريق والتشويه ستفشل أمام وعي شعبنا ووحدته”.. وأن “كرامة الأسرى والأسرى المحرّرين خط أحمر…” و”أن فتح كانت وما زالت وستبقى عنواننا وبيتنا.. فنحن الأحرص على رفعة وشموخ هذه الحركة العملاقة”.

تمثل سلطة محمود عباس النظام العربي الرسمي المستسلم أمام العدو الصهيو-أميركي في المنطقة، والذي يقمع التطلعات التحررية للشعوب العربية بحجة “حفظ الأمن”. لكن ستظل السلطة الفلسطينية أكثر هشاشة من هذا النظام التابع، بسبب وجود مقاومة صلبة معادية لوجود كيان العدو، تمثل تطلعات الشعب الفلسطيني التحررية. وتمثل قضية الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو إحدى أهم التحديات التي تواجهها السلطة لكي يعترف المجتمع الفلسطيني بشرعيتها، كون هذه القضية تمس كافة شرائح المجتمع الفلسطيني وتنظيماته السياسية.

إغلاق