غزة… المدينة التي نامت على رمادها وحدها!

غزة… المدينة التي نامت على رمادها وحدها!

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني محمود كلم مقالاً حول اتفاق الهدنة ووقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك بعد عامين من حرب إبادة أسفرت عن استشهاد أكثر من 70 ألف شهيد ومفقود، وإصابة أكثر من 120 ألف بجراح مختلفة، وسط حالة خذلان تعرضت لها من القريب والبعيد، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

في زاويةٍ صغيرةٍ من هذا العالم المترامِي، تنام غزة تحت سماءٍ لم تعد صافيةً منذ زمنٍ بعيد.

سماءٌ مثقوبةٌ بالصواريخ، وأرضٌ تحفظ أسماء الأطفال أكثرَ مما تحفظ أسماء الشوارع.

هناك، لا تُقاس الأيامُ بالساعات، بل بعدد الأصوات التي تنفجر في الليل، وبعدد الجثامين التي تُحمَل على الأكتاف مع الفجر.

غزة ليست مدينةً فحسب، بل جرحٌ مفتوحٌ على ذاكرةٍ مثقلةٍ بالخذلان.
من كل الجهات كانت تنادي إخوتها: من المحيط إلى الخليج، من مآذن المساجد إلى قباب القصور.
لكنّ الصدى وحده كان يجيبها، بلسانٍ باهتٍ من بيانات الشجب، وبنبرةٍ باردةٍ من كلماتٍ محفوظةٍ تُقال ثم تُنسى.

تذكُر غزة حين كانت تنتظر العرب كما ينتظر الغريقُ مركبَ النجاة.
لكنّ المراكب كانت تمضي مبتعدةً، تتركها في بحرِ الدم وحدها، تصارع الموجَ والحصارَ والخذلان.
كأنها ليست من لحمنا، كأنّ أطفالها لا يشبهون أطفالنا، كأنّ صراخها لم يُكتَب بالعربية.

وفي كل بيتٍ فيها، قصةٌ تشبه مأساةً من روايات الأدب الروسي…
حيث الأبطال يموتون ببطء، يحملون إيمانهم كصليبٍ فوق أكتافهم،
ويبتسمون في وجه الموت لأنهم لا يملكون شيئاً سواه.
تماماً كما تفعل غزة…
تعيش على الحافة، وتُغنّي للأمل بصوتٍ مبحوحٍ لا يسمعه إلا الله.

قال أحد الكتّاب الروس: «أسوأ ما في الخذلان أن يأتي من الذين أقسموا ألّا يتركوك».
ولعلّ غزة اليوم تحفظ هذه الجملة جيداً، تكتبها على جدرانها المحطَّمة،
وتعرف أن من ناموا مطمئنين في العواصم، نسوا أن الأمان الذي يعيشونه إنما هو من رمادها.

ومع ذلك، لم تمت غزة. لم تنكسر، ولم تركع.
تنهض من تحت الركام، تغسل وجهها بالدموع، وتقول:

«خذلتموني، نعم، لكن الله لم يخذلني».

وفي آخر الليل، حين يهدأ كلُّ شيء،
تبقى غزة وحدها تسهر مع قمرٍ مكسورٍ فوقها، تُحدِّثه عن أوجاعها، عن أطفالٍ رحلوا قبل أن يتعلّموا الضحك، وعن أمٍّ ما زالت تحتضن قطعةَ قماشٍ تظنّها ابنها.

هناك، في العتمة، تُدرك غزة أنّ العالم قد أدار وجهه عنها،
وأنّ العرب اكتفوا بالبكاء من خلف الشاشات.
لكنها تعرف أيضاً أن الله يسمع أنينها،
وأنّ في كلِّ حجرٍ منها، وفي كلِّ دمعةٍ تسقط على ترابها، وعداً لا يُنكَث:
أنها ستبقى، حتى لو رحل الجميع.

غزة لا تموت، لكنها تنزف بصمتٍ يشبه الدعاء، تكتب حزنها على جدارٍ مهدَّم،
وتنتظر فجراً لا تدري متى يأتي، فجراً لا يُناديها بالخذلان… بل بالوفاء.

محمود كلّم، كاتبٌ وباحثٌ فلسطينيّ، يكتب في الشأنين السياسيّ والوجدانيّ، ويُعنى بقضايا الانتماء والهويّة الفلسطينيّة. يرى في الكلمة امتداداً للصوت الحرّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النضال.

إغلاق