كيف انتهت تجارب الميليشيات الموالية للاحتلال تاريخيًا؟

كيف انتهت تجارب الميليشيات الموالية للاحتلال تاريخيًا؟

غزة – الشاهد| كتب طلعت رميح: فور انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية من أراضٍ بقطاع غزة، انفجرت مشكلة الميليشيات التي شكلتها وسلّحتها وتركتها لغمًا قابلًا للانفجار.

لقد قامت قوات إنفاذ القانون في غزة بملاحقة تلك الميليشيات، وقدمت أفرادها للمحاكمة بتهم التجسس، والقيام بأعمال فوضى وترويع وقتل للمواطنين، وسرقة لذاك النزر اليسير من مواد الإغاثة.

وإذ لفت النظر حديث الرئيس الأمريكي بإيجابية عن ملاحقة هؤلاء – قبل أن يغير رأيه لاحقًا – وأن حدثت خلافات في إسرائيل بسبب التخوف من وصول الأسلحة التي سُلّمت للميليشيات إلى أيدي المقاومة، فقد جاء صادمًا ما ورد في إعلام عربي عن حربٍ أهلية في غزة وعن انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان… إلخ.

وقد ردّ كثيرون على أصحاب تلك الأقوال بالإشارة إلى صمتهم وعدم إدانتهم لجرائم القتل والإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال، وبأن ما يرددونه يخدم أهداف الاحتلال.

لكن، هل كان متوقعًا أن يكون هناك مصير آخر لميليشيات شكّلها الاحتلال؟ وماذا تقول تجارب البلدان التي جرى احتلالها وشهدت تشكيل مثل تلك الميليشيات؟ وهل ما يجري في غزة به شُبهة حربٍ أهلية؟.

دور الميليشيات في الدول المحتلة

تعمل قوات الاحتلال فور السيطرة على الأرض على تشكيل مجموعات موالية له من أبناء الشعب المحتل. ووفقًا للتجارب التاريخية، فليس هناك احتلال لم يتضمن جدول أعماله تشكيل أحزاب وميليشيات تابعة له، يدعمها إعلاميًا وماليًا وتسليحيًا.

ويتطور الأمر إلى تشكيل حكومات وجيوش موالية لتقليل الأعباء عن جيش الاحتلال ولحفظ أمن قواته، إذ يُبعَد جنوده عن الاحتكاك المباشر بالمواطنين في الشوارع، فلا يكونون عرضة للاستهداف.

كما يضع الاحتلال الأساس لإندلاع حربٍ أهلية – عبر اعتماد مواصفات طائفية أو قبلية للمتعاونين معه – حال اضطراره للانسحاب.ولكل احتلال قائمة أهداف وأساليب يعمل عليها؛ فالدول الاستعمارية تتعلم من تجارب نظيراتها، إلى درجة أن تشكلت أجندة أهداف وأساليب متشابهة رغم تعدد أشكال الاستعمار.

ووفقًا لتلك التجارب والخبرات، تقوم الدول الاستعمارية باختراق المجتمع المستهدف قبل أن تطأ أقدام جحافل قواتها أرض هذا البلد. فتعمل على إضعاف شرعية الحكومات والدول القائمة وشيطنتها، وعلى إثارة المواطنين ضدها، وعلى التقرب من الشعوب بإظهار نفسها بمظهر المساند والمدافع عن مصالحهم.

وحين ينجح الاحتلال، يجري العمل على خطة تعميق الاختراق والسيطرة، فيُشكَّل حكومات وجيوشًا وشرطةً محلية وأحزابًا موالية – وأحيانًا حتى معارضة شكلية – لمنح الاحتلال شرعية.

وتُنشأ الميليشيات لتعميق الانقسام المجتمعي وتسخير قوة محلية في مواجهة المقاومة. كما يغير الاحتلال وجه الإعلام وتوجهاته في البلد المحتل، مستهدفًا تأمين قواته في معسكرات مغلقة، ومنع توحد المجتمع على إرادة وطنية تصنع مقاومة قوية، عبر إشاعة مناخ التباغض، وصولًا إلى إشعال حربٍ أهلية، سواء كانت ثقافية صامتة أو ساخنة بالسلاح.

وسؤال اليوم التالي – بعد هزيمة قوات الاحتلال وطردها – هو: ماذا عن بقايا هذا الاحتلال؟وإذ يكون طبيعيًا أن تركز السلطات بعد التحرير على تضميد جراح المجتمع وإعادة بناء ما هدمه الاحتلال وإعادة تشكيل جهاز الدولة الوطني، فهناك مهام عاجلة تتعلق بإزالة مخلفات الاحتلال، وفي القلب منها الأشكال العسكرية التي شكّلها وتركها وهرب.

تاريخيًا… ماذا جرى؟

لم ينجُ أحد ممن تعاونوا مع محتلي بلادهم من مصيرٍ مؤلم، سواء على يد المحتلين أو على يد المقاومة والشعوب بعد التحرير.

تلك قصة تكررت في كل بلدٍ جرى احتلاله.لقد تخلى المحتل عن الذين تعاونوا معه، وتركهم نهبًا لمصيرهم المحتوم، تمامًا كالأسلحة والمعدات المدمّرة التي تركها.وجرى في المقابل إنهاء كل الأشكال التنظيمية التي تعاونت مع قوات الاحتلال، سواء في صورة حكومات أو ميليشيات أو أحزاب.

وكان مشهد محاولة التعلّق بالطائرات الأمريكية المنسحبة من فيتنام بالغ الدلالة، وتكرر خلال انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.تلك المشاهد حملت دلالاتٍ على أن المتعاونين يعرفون طبيعة الجرم الذي ارتكبوه ومدى كراهية أبناء شعبهم لهم، وأن المحتل يحتقرهم ولا يلقي بالًا لمصيرهم.

وبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية – وكذلك اليابان وإيطاليا – شهد العالم محاكماتٍ لقادة تلك الدول، وكان مشهد تعليق موسوليني على المشنقة في إيطاليا أشدها تعبيرًا.

أما مصير الذين تعاونوا مع قوات الاحتلال، فقد تولت المقاومة المنتصرة القبض عليهم. حدث هذا في اليونان ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا وإيطاليا والدنمارك والنمسا وبلجيكا… إلخ.

وكانت لتجربة فرنسا لونٌ خاص؛ إذ بعد احتلال القوات الألمانية للأراضي الفرنسية، شكّل الماريشال فيليب بيتان ما سُمّي بـ«حكومة فيشي» الموالية للألمان، وبعد التحرير أُدين بيتان بالخيانة وحُكم عليه بالإعدام، فخفّف ديغول الحكم إلى السجن مدى الحياة.

شركات المرتزقة… القتل مقابل المال

بدخول العالم مرحلة الحرب الباردة، لم يعد شرطًا أن يقع الاحتلال حتى تتشكل الميليشيات. لقد أصبحت ظاهرة المرتزقة حالة دولية، لارتباطها بالصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

وبعد نهايتها، أخذ تشكيل الميليشيات بعدًا أكثر تنظيمًا مع ظهور الشركات الأمنية.لقد انكشف دور وجرائم شركة «بلاك ووتر» الأمريكية خلال احتلال العراق كمؤسسة تابعة للقوات الأمريكية، واشتهر دور وجرائم شركة «فاغنر» الروسية خلال الحرب الأوكرانية، كما كُشف عن نشاطها في إفريقيا كذراع للجيش والدولة الروسية.

ميليشيات “إسرائيل” في غزة

فور انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلية، تحركت سلطات إنفاذ القانون لملاحقة الميليشيات التي شكلتها قوات الاحتلال، تمامًا كما حدث مع ميليشيا «جيش جنوب لبنان».

لقد ارتبط تشكيل الميليشيات في غزة بأسماء أشخاص – كما كان الحال مع سعد حداد وأنطوان لحد – وقد ارتكبوا الجرائم نفسها، وكان طبيعيًا أن يلقوا المصير ذاته، تحقيقًا للعدالة، ولمنع الانتقام الفردي، وحتى لا يكونوا «مسمار جحا» لقوات الاحتلال.

وإذ يقول البعض إنها حرب أهلية، فقد ردّ رؤساء العائلات والعشائر بإعلان التبرؤ من تلك العناصر، ومطالبة سلطات إنفاذ القانون بملاحقتهم وإنهاء تلك الظاهرة التي عانوا منها الأمرّين.

إغلاق