غزة لا تتسول الكرامة.. بل تفضح المتمننين باسم الأخوّة

غزة لا تتسول الكرامة.. بل تفضح المتمننين باسم الأخوّة

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول حالة التمنن التي يقوم بها العرب والسلطة الفلسطينية على أهالي قطاع غزة بشأن وقف الحرب التي استمرت عامين كاملين، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

منذ بدأت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وامتدت مشاهد الدمار والمجازر إلى كل بيت وشارع وزاوية، كان الفلسطينيون ينتظرون أن يسمعوا من العرب صوتاً يخفف وطأة العزلة، أو موقفاً يُعيد بعضاً من معنى الأخوّة المهدور، لكن ما فاجأ كثيرين، ليس صمت العواصم ولا ازدواجية الأنظمة فقط، بل ما طفا على سطح وسائل التواصل من أصواتٍ عربيةٍ تُمَنّ على غزة بفتات المساعدات، وتُذكّرها بما قدمته أو لم تقدمه من منن .

لقد تحوّل فعل الخير عند البعض إلى منبرٍ للتفاخر والتقريع، وبدلاً من أن تكون المساندة عنواناً للكرامة والمروءة، أصبحت باباً للمهانة، لا أحد يجبر أحداً على التبرع، ولا يُلام من قدّم لشعبه أولويّة في ظل أزمة اقتصادية أو معاناة داخلية، لكن أن يتحوّل النقاش من باب الاختيار إلى باب التمنن، فذلك سقوط في امتحان الأخلاق قبل امتحان الإنسانية.

غزة التي تقف اليوم على رماد مدنها، لا تحتاج إلى منّة، بل إلى موقف، هي لم تطلب الشفقة، بل العدالة، ولم تمد يدها للسؤال، بل وقفت تُدافع عن كرامة الأمة بأكملها، وهي تعلم أن دماء أطفالها تكتب معنى العروبة الحقيقي، لا بيانات القمم ولا هتافات الإعلام.

إن التمنن على غزة، بعد كل ما قدمته من تضحيات، ليس فقط إساءة لشعبٍ محاصر منذ عقدين، بل هو خيانة لمعنى العروبة او الاسلام ذاته، لأن غزة ليست رقعة جغرافية تبحث عن إعاشة، بل هي خط الدفاع الأول عن كل بيتٍ عربي يعيش في أمان نسبي بفضل صمودها، من يظن أن التمنن على غزة يُضعفها، لا يدرك أنه يُضعف نفسه، ويُهين ذاكرة وطنه، ويُسقط آخر ما تبقى من نخوة في قلبه.

لقد تعوّدت غزة على أن تُحاصر بالأسلاك، لكن أن تُحاصر باللسان والخذلان، فذلك أشد وجعاً، لم تطلب من أحد أن يدفع عنها ضريبة الدم، لكنها لم تتوقع أن تتحول الدماء إلى مادةٍ للسخرية أو المزايدة، الكلمة في مثل هذه اللحظات أخطر من الصاروخ، ومن يكتب أو يعلّق بسخرية على وجع غزة، يشارك في الجريمة بطريقته.

التاريخ لا يرحم، وهو سيسجّل أن في زمنٍ واحدٍ، كانت غزة تُقصف، وكان بعض العرب يُحاسبها على صبرها، ويُذكّرها بما لم يقدّمه أصلاً، بين عار الحصار الذي طال أكثر من عقد، و”عار التمنن” الذي انكشف على الملأ، تتجلى حقيقة الانحدار الأخلاقي الذي أصاب الوعي الجمعي العربي.

إن التضامن لا يُقاس بحجم المساعدات، بل بنقاء الموقف، وغزة التي لم تنم ليلة واحدة دون قصف أو خوف، علمت الجميع أن الكرامة لا تُشترى، وأن الفقر لا يُفقد الإنسان شرفه، أما الذين اختاروا طريق التمنن، فهم من خسروا امتحان الإنسانية قبل أن يخسروا امتحان التاريخ.

غزة اليوم لا تطلب شيئاً من أحد، سوى أن يُكفّوا عنها لغة التفاخر المسمومة، وأن يتذكروا أن كل طفلٍ تحت الركام هناك، هو شاهدٌ على من وقف مع الحق، ومن باع المروءة باسم الوطنية أو الأزمة الاقتصادية.

سيبقى في الذاكرة أن غزة، رغم الجوع والدمار، لم تردّ الإساءة بالإساءة، بل ردّت بالصبر والكرامة، وستبقى كما كانت: مرآةً تكشف وجوه العرب على حقيقتها، فمنهم من يظهر وجهه مضيئاً بالمروءة، ومنهم من فضحه التمنن.

 

إغلاق