وحوش التلال.. جيش الظل الذي يشعل الضفة الغربية

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول تصاعد هجمات المستوطنين بالضفة الغربية، والتي تصاعدت بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
في قلب جبال الضفة الغربية المحتلة تتشكل اليوم إحدى أخطر الظواهر الاستيطانية التي عرفتها فلسطين منذ احتلال عام 1967، وهي ظاهرة “وحوش التلال”، الجماعة الجديدة التي ولدت من رحم “فتيان التلال” لكنها سرعان ما انفصلت عنها لتتحول إلى تنظيم أكثر عنفا وأكثر تطرفا وأكثر طموحا في إعادة صياغة قواعد اللعبة في الضفة الغربية، لم يعد الأمر مجرد مجموعات شبابية تنفلت من رقابة الجيش أو تتحدى القانون ، بل بات مشروعا متكاملا يسعى لتأسيس قوة مسلحة تمتلك نفوذا ميدانيا وتطمح لأن تصبح صاحبة قرار سياسي في إسرائيل، بل وتطمح لأن تكون النواة الأولى لما يمكن تسميته “جمهورية المستوطنين”.
تنطلق “وحوش التلال” من إيمان أعمى بفكرة “أرض إسرائيل الكبرى”، وتعتبر أن الضفة الغربية ليست منطقة متنازعاً عليها أو خاضعة للتفاوض، بل هي قلب المشروع التوراتي الذي لا يحق لأي حكومة إسرائيلية المساس به، وهي لا تعترف بسلطة الدولة ولا بقرارات الجيش ولا بقوانين المحاكم، وترى أن أي تسوية سياسية أو أمنية مع الفلسطينيين
وتعتبرها خيانة للوصية الدينية التي تعطيهم الحق المطلق في السيطرة على الأرض وطرد الفلسطينيين منها بالقوة.
لقد كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تتعامل مع “فتيان التلال” باعتبارهم مشاغبين يمكن توجيههم أو احتواؤهم، وأن عنفهم الموجّه ضد الفلسطينيين يخدم في نهاية المطاف “الاستراتيجية الكبرى” للمشروع الاستيطاني، لكن مع “وحوش التلال” تغيّر المشهد جذريا، إذ أصبحت هذه العصابات تهاجم الجنود أنفسهم وتعتدي على المستوطنين الذين يرفضون سلوكها، ووصل الأمر إلى اشتباكات مسلحة في بعض المواقع، ما كشف أن الدولة التي غذّت الوحش لعقود لم تعد قادرة على السيطرة عليه، وأن التطرف الذي رعته على حساب الفلسطينيين ارتدّ عليها بقوة.
تصف أجهزة الأمن الإسرائيلية “وحوش التلال” بأنها خلية إجرامية منظمة تضم عشرات الشبان المدججين بالسلاح، يتنقلون بين البؤر الاستيطانية، ويديرون حملة ممنهجة من الحرق والاعتداء والتهجير ضد القرى الفلسطينية ومزارعها، وقد حوّلوا مساحات واسعة من الضفة إلى مناطق رعب حقيقية يعيش سكانها تحت تهديد دائم، إلا أن الخطر الأكبر لا يكمن في قدرتهم على تنفيذ العنف فقط، بل في التحول السياسي الذي يعملون عليه بصمت، فهم يسعون إلى تثبيت نفوذ ميداني يجعل لهم وزنا في المعادلة السياسية المقبلة، ويراهنون على أن صعود اليمين المتطرف سيمنحهم نافذة للدخول إلى الكنيست وربما السيطرة على مفاصل داخل الحكومة المستقبلية.
إن هذا الطموح السياسي لم يعد مجرد كلام على أطراف التلال، بل أصبح جزءا من مشاريع انتخابية داخل اليمين، حيث تحاول قوى متطرفة كحزب “عوتسما يهوديت” وغيره استقطاب هؤلاء الشبان، وتوفير غطاء سياسي لهم، أملا بأن يتحول نشاطهم الدموي إلى أوراق قوة في الصراع الداخلي على قيادة المعسكر اليميني، وبهذا فإن “وحوش التلال” لم تعد مجرد ميليشيا عشوائية، بل أصبحت تتصرف باعتبارها جسمًا متناميًا يملك الأرض ويفرض الوقائع ويحاول احتلال السياسة.
وهكذا تتشكل ملامح مرحلة جديدة في الضفة الغربية، مرحلة لم يعد فيها الاحتلال مجرد جيش يفرض سيطرته على الفلسطينيين، بل مزيجا من الدولة والميليشيا، حيث تتوارى المؤسسات الرسمية خلف مجموعات عقائدية مسلحة ترى نفسها دولة داخل الدولة، وتعمل على تأسيس واقع بديل، واقع تُدار فيه الضفة الغربية من التلال، ويصبح المستوطنون هم الحاكم الفعلي بينما الدولة تتراجع خطوة وراءهم، ومع ازدياد نفوذ “وحوش التلال”، ومع الدعم غير المباشر الذي تتلقاه من وزراء في الحكومة اليمينية، تقترب الفكرة الأخطر من التحقق، وهي نشوء كيان موازٍ للكيان الإسرائيلي الرسمي، كيان عقائدي يستمد شرعيته من السلاح ، ويضع الأسس الأولى لما يمكن تسميته “جمهورية المستوطنين”، جمهورية تُفرض بقوة الإرهاب وتُدار بمنطق التفوق الديني والعرقي، وتحوّل الضفة إلى مساحة مفتوحة لهيمنة العنصريين.
إن صعود “وحوش التلال” ليس ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس مباشر لأزمة عميقة داخل المجتمع الإسرائيلي، أزمة انفلات أيديولوجي وغياب سلطة مركزية وضعف قدرة الدولة على ضبط المشروع الاستيطاني الذي رعته لسنوات، وما لم يحدث تحول جذري في بنية الحكم الإسرائيلي، فإن هذه الجماعات لن تتوقف، لأنها لم تعد تبحث فقط عن السيطرة على الأرض، بل عن المشاركة في الحكم، وعن صياغة مستقبل إسرائيل وفق رؤيتها التوراتية المتطرفة، ما يجعل الضفة الغربية اليوم ليست فقط ساحة صراع فلسطيني إسرائيلي، بل أيضا ساحة صراع داخل إسرائيل نفسها بين دولة تحاول الحفاظ على ما تبقى من “نظام” وجماعات تريد إسقاطه لصالح مشروع ديني استيطاني لا حدود له.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=97148





