التنسيق أو الجوع

التنسيق أو الجوع

الصحفية شيماء مرزوق/

"جوّع شعبك ليتبعك فإذا سمن أكلك" سياسة قديمة اتبعتها الأنظمة الضعيفة والمستبدة التي لا تملك منطقا ولا حكمة ولا قوة فعل، هي تملك فقط سيف المال تسلطه على رقاب مواطنيها، فتحول أنظارهم عن قضاياهم الوطنية إلى قضاياهم الحياتية المعيشية اليومية.

 

اتبعت السلطة الفلسطينية سياسة التجويع للتركيع بشكل فج طوال السنوات الماضية، خاصة فيما بعد الانقسام الفلسطيني عام 2007 الذي تصادف هذه الأيام ذكراه القاسية. ومع قرب تنفيذ الاحتلال مخطط ضم الضفة الغربية والأغوار المقرر في بداية تموز/ يوليو القادم تتجه السلطة لتشديد سياسة التجويع ضد موظفيها ومواطنيها.

 

حكومة الدكتور محمد أشتية تمتنع عن دفع رواتب الموظفين العموميين لشهر أيار/ مايو حتى الآن بحجة عدم استلام أموال المقاصة، وأنها تعاني عجزا في الموازنة لشهر أيار/ مايو الماضي بلغ 863 مليون شيكل، وأن إجمالي الإيرادات التي دخلت خزينة وزارة المالية لذات الشهر بلغ 237 مليون شيكل، منها 137 مليون شيكل إيرادات محلية و100 مليون شيكل دعما خارجيا، فيما سجّلت خانة إيرادات المقاصة صفرا.

 

التوضيح الذي صدر عن وزارة المالية يفتقر إلى الكثير من المصداقية والأرقام التي كان من المفترض أن تفصح عنها المالية، حيث أن إيرادات السلطة لا تعتمد على المقاصة فقط، فهي تعتمد على مصادر تمويل رئيسية تشمل: أموال المقاصة وتشكل 60 في المئة من الإيرادات، والضرائب المحلية وتشكل 40 في المئة من الإيرادات، والمساعدات الخارجية، والاقتراض.

 

ولأن لغة الأرقام دائما أوضح وأدق، وسأورد بعض التفاصيل حول الأموال التي دخلت خزينة وزارة المالية خلال الفترة الماضية.

 

تسلمت السلطة أموال المقاصة عن شهري آذار/ مارس ونيسان/ أبريل في منتصف أيار/ مايو المنصرم كاملة ودون خصم مخصصات الشهداء والأسرى، وتبلغ مليارا و300 مليون شيكل.

 

حصلت على قرض من الاحتلال الإسرائيلي بقيمة 800 مليون شيكل خلال شهر أيار/ مايو.

 

تلقت مساعدات دولية خلال شهر آذار/ مارس بقيمة 320 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي لمواجهة أزمة كورونا، إضافة إلى ملايين الدولارات والمساعدات من الدول العربية، في حين أن ما طرحته السلطة لنفقات كورونا لا يتعدى 120 مليون شيكل.

 

تلقت قروضا محلية خلال العام الجاري بقيمة ملياري شيكل.

 

وهذا يدفعنا للتساؤل: أين ذهبت هذه الأموال؟ وكيف تتعامل السلطة في إدارة المال العام؟

 

هناك الكثير من الملاحظات على الأزمة الحالية المفتعلة بشكل فج، خاصة أن الأرقام الواردة تفند ادعاءات الأزمة المالية لدى السلطة الفلسطينية وعجزها عن دفع رواتب موظفيها، لا سيما أن عدم استلام أموال المقاصة لا يعني عجزها عن دفع الرواتب بالكامل، حيث أن الإيرادات الأخرى تمكنها من صرف نسبة معينة من الراتب على الأقل.

 

أولا: الامتناع عن استلام أموال المقاصة دون بديل واضح أو استراتيجية للتعامل مع الملف المالي، يعمق المأزق الفلسطيني وليس العكس، خاصة أنها خطوة لا تؤثر على الاحتلال ولا تشكل ضغط عليه، في حين تؤثر على حياة 160 ألف أسرة فلسطينية بشكل مباشر وتشل حركة الاقتصاد وتؤثر على باقي المجتمع، فيما تبدو أقرب إلى معاقبة الشعب الفلسطيني.

 

ثانيا: التجارب السابقة من "حرد" السلطة عن استلام أموال المقاصة تنتهي بتراجعها، ما يؤكد أنها لا تتخذ قرارات حازمة تجاه الاحتلال أو وفق رؤية واضحة، وبالتالي فإن التوقعات تشير إلى تراجعها هذه المرة أيضا.

 

ثالثا: في شباط/ فبراير 2019، بدأ الاحتلال الإسرائيلي باقتطاع 502 مليون شيكل من العائدات الضريبية للسلطة، والتي تعادل قيمة رواتب أسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين. على إثر القرار رفضت السلطة استلام المقاصة، وعملت وفق ما أطلقت عليه "موازنة طوارئ" لمدة ثمانية أشهر قبل أن تعود عن قرارها وتوافق على استلام المقاصة منقوصة. وخلال ثمانية أشهر من الأزمة دفعت السلطة ما نسبته 60 في المئة من الراتب لموظفيها بشكل منتظم، فلماذا لا تعمل بذات الآلية حاليا؟

 

رابعا: السلطة ترفض استلام المقاصة وهي أموال الضرائب والجباية الفلسطينية والتي هي حق لها، فيما تقبل الحصول على قرض من الاحتلال في خطوة من الصعب استيعابها وتفهمها، خاصة في الوقت الذي تدعي أنها قطعت كل العلاقات معه، وأنها في حالة اشتباك ومواجهة لا نسمع لها جعجعة إلا في الإعلام فقط.

 

خامسا: غزة ربما تدفع مجددا ثمن الأزمة السياسية وليس المالية للسلطة الفلسطينية، حيث تستغل الفرصة لتقليص موازنة غزة المقلصة أصلا. وقد أعلن وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح، حسين الشيخ، صراحة أن السلطة تتجه لتخفيض الميزانية الشهرية التي تقدمها لقطاع غزة، بالإضافة إلى تخفيض رواتب عشرات الآلاف من الموظفين وضباط الأمن.

 

وفيما تتجه السلطة عند كل فرصة تسنح لها لتقليص فاتورة رواتب غزة بحجة الأزمة المالية، تتضخم باستمرار فاتورة الموازنات التشغيلية. وفي الوقت الذي تتحدث فيه السلطة عن موازنة طوارئ وخطة تقشفية، فإن التقشف يطال فقط الفئات الصغيرة والفقيرة، بينما تتضخم فاتورة الصرف على كبار الموظفين والوزراء وديوان الرئاسة. ويكفي الاطلاع على قرار بقانون رقم (5) لسنة 2020م بشأن ديوان الرئاسة الفلسطينية لمعرفة حجم الصلاحيات والنفوذ المالي الذي يحظى به ديوان الرئاسة، ما جعله أشبه بحكومة موازية بصلاحيات مطلقة في الشأن المالي ودون أي رقابة.

 

الغريب في الأمر أن تأخير صرف الرواتب يشكل حالة ضغط مجتمعي ويشغل المواطنين بقضايا ثانوية، في ظل مخططات خطيرة تهدف لتصفية القضية الفلسطينية، واقتراب فرض سيادة الاحتلال على 30 في المئة من الضفة الغربية، بينما كان الأولى أن تصب السلطة كل اهتمامها واهتمام شعبها بالقضايا الوطنية الرئيسية في هذا الوقت وليس العكس.

 

الرسالة من تأخر الصرف سياسية بامتياز، وربما المستهدف منها أهالي الضفة الغربية أكثر من قطاع غزة الذي بات خارج حسابات السلطة. الرسالة باختصار: "التنسيق أو الجوع". فالسلطة تهدف بالامتناع عن دفع الرواتب إيصال رسالة عملية للمواطنين، مفادها أن وقف التنسيق الأمني سينعكس على لقمة عيشكم وسيتسبب في تجويع أطفالكم، فتدفع الناس للقبول بالواقع السياسي والميداني الكارثي في الضفة الغربية، على قاعدة "إنما أسألك إبلي وللبيت رب يحميه".

إغلاق