كي لا نكون شركاء في جريمة خنق غزّة

كي لا نكون شركاء في جريمة خنق غزّة

رام الله – الشاهد| خط الكاتب والباحث الفلسطيني أسامة أبو ارشيد مقالاً حول خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن إنهاء الحرب على قطاع غزة، والضغوطات التي تتعرض لها المقاومة الفلسطينية بشكل هائل من أجل قبول الخطة كما هي دون أي تعديلات، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

أمران أحلاهما مرٌّ، ذلك ما تجد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة نفسها أمامه بعد الخطّة التي أعلنها دونالد ترامب (29 سبتمبر/ أيلول) لوقف إطلاق النار. عمليّاً، وُضِعت المقاومة أمام خيارَين قاتلَين، إمّا أن تُصفَّى بالرصاص وإمّا أن تتجرّع السمَّ طوعاً وتموت.

وترامب، كما مجرم الحرب المطلوب للعدالة الدولية بنيامين نتنياهو، لم يخفيا استعدادهما (في حالة نتنياهو رغبته كذلك) في المضي في حرب الإبادة ضدّ الفلسطينيين في غزّة إن لم تقبل حركة حماس، وفصائل المقاومة الأخرى، بعقد الإذعان المعروض عليهم. لا تتوخّى خطّة ترامب في جوهرها تحقيق سلام في قطاع غزّة، بل هي وثيقة استسلام، مقرونة بتهديدات فتح “أبواب الجحيم” (وكأنّها أغلقت يوماً في العامين الأخيرين!) على شعب غزّة المنكوب.

ورغم ذلك، ليس سهلاً على المقاومة الفلسطينية أن ترفض عرض البلطجة الترامبي، ذلك أن وراءها شعبٌ يباد ليل نهار، من دون رادع لإسرائيل، ومن دون ملجأ من البطش الإسرائيلي – الأميركي، ومن دون كثير سند ونصير، بين أغلب أشقّائه الفلسطينيين، دع عنك جلَّ عمقه العربي والإسلامي، إلا من رحم ربُّك، وقليل ما هم. أمّا المجتمع الدوليّ، فرغم إرهاصات صحوة فيه، ومواقف مشرّفة في أميركا الجنوبية وأفريقيا وأوروبا، فإنه ما زال عاجزاً أمام السطوة الإجرامية الأميركية.

شخصياً، أتفهم موقف من يطالبون “حماس” وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية (من منطلق الحرص على ما تبقّى من غزّة وأهلها) بالقبول بوثيقة الاستسلام. تضمّ منظمة التعاون الإسلامي 57 دولة مسلمة، منها 22 في جامعة الدول العربية. 57 دولة أقرب ما تكون إلى غثاء السيل. يقع قطاع غزّة المُجوَّع الذي يتعرّض للإبادة في قلب جغرافيتهم عديمة الوزن عالمياً. منذ 7 أكتوبر (2023) اجتمعت المنظّمة والجامعة مرّات ومرّات. ناشدت العالم إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة من دون أن يقدموا هم على فعل ذلك، حتى عندما كان معبر رفح بين مصر والقطاع تحت سيطرة الفلسطينيين حتى مايو/ أيار 2024.

ثمَّ بدؤوا يتذرّعون بأن إسرائيل تسيطر على الجانب الفلسطيني من المعبر ولا تسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين، رغم أن كثيراً من تلك المساعدات تعفّنت أو سُرقتْ شهوراً طويلة قبل ذلك في الجانب المصري من الحدود.

في المقابل، تقبع السلطة الفلسطينية في واد والشعب في غزّة في وادٍ آخر. يصرّ محمود عبّاس أنه رئيس الشعب الفلسطيني وأن منظّمة التحرير هي الممثّل الشرعي والوحيد لهذا الشعب، لكنّه كان وما زال يُقزّم وسلطته نفسيهما في المناكفات مع حركة حماس. إنهما يصرّان بعناد جامح على تسجيل نقاط رخيصة ضدَّ الحركة، في حين يتعرّض الشعب في غزّة، الذي هو جزء من شعبهما (كما يزعمان) للإبادة والتجويع. يعجز عبّاس وسلطته، أو أنهما يتعاجزان، عن إدراك أن الأمر أكبر من “حماس”، وما يقولان إنه خطأ في حساباتها في “طوفان الأقصى” قبل عامَين. لستُ ضدّ المحاسبة وإعادة تقويم المشهد الفلسطيني برمّته، ولكن ليس في خضمّ محاولات سحق فلسطين وقضيتها وشعبها.

لا يهم إسرائيل النقد الذاتي الفلسطيني، ولا تهمّها “حماس” ولا “فتح” ولا السلطة ولا الشعب الفلسطيني. كلهم لديها هدف للإلغاء والتدمير. ومن لم يسمع ذلك جلياً واضحاً في خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة (26 سبتمبر)، وتصريحاته في المؤتمر الصحافي مع ترامب في البيت الأبيض (29 سبتمبر)، أحمق متحامق.تقبع السلطة الفلسطينية في واد والشعب في غزّة في وادٍ آخرفي هذا السياق ينبغي أن نميّز بين مستويَين: الأول، حتمية التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار دائم، ذلك أن الشعب في غزّة تحمّل ما لا يحتمله بشر، بل يعجز عن تصوّره عقل. والثاني، ألا يكون وقف إطلاق النار حلقة جديدة في مسلسل إبادة غزّة، وتطهيرها من أهلها، وتأبيد احتلالها، وتمزيق ما تبقّى من فتات الحقّ والمشروع الوطني الفلسطينيين.

يمكن للمرء أن يتفهّم ضرورة إعادة تشكيل بنية فصائل المقاومة الفلسطينية ضمن موازين القوى المادية، وحجم الإجرام الإسرائيلي – الأميركي، والعجز العربي، الإسلامي والدولي. ولكن خطّة ترامب تذهب إلى أبعد من ذلك، إنها لا تقدّم ضماناتٍ لانسحاب إسرائيلي من قطاع غزّة، ولا إعادة إعماره، ولا عدم تهجيره سكّانه، ويكفي أن تعلم أن الهيئة الدولية (مجلس الوصاية) التي ستشرف على قطاع غزّة وعمل لجنة التكنوقراط الفلسطينية (بصلاحيات بلدية، ومن دون أيّ صلة بالسلطة الفلسطينية) سيرأسها ترامب نفسه، ومعه نظيره في الإجرام الدولي، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير. أمّا حلم الدولة الفلسطينية، الذي يصرّ نتنياهو أنه لن يتحقّق أبداً، فهو مجرّد “طموح للشعب الفلسطيني” في خطّة ترامب، وليس حقّاً أخلاقياً، ولا استحقاقاً قانونياً، وكذلك الحال في الضفة الغربية، التي لا تنصّ الخطة على منع إسرائيل ضمّ أجزاء منها، على عكس ما كان قد تعهّد به ترامب لقادة ثماني دول عربية ومسلمة ومسؤوليها التقاهم في نيويورك (23 سبتمبر) على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

باختصار، ليست خطّة ترامب التي أعلنها مع نتنياهو الخطّة نفسها التي جرى تطويرها مع الأطراف العربية والإسلامية في نيويورك، كما أوضح ذلك عدد منهم، بل فيها حضور لأصابع العبث والتخريب الإسرائيلية، كما أكّدت ذلك مصادر أميركية وإسرائيلية. ومع اتفاقنا أن قطاع غزّة في حاجة ماسّة إلى اتفاق دائم لوقف حرب الإبادة فيه، حتى ولو عَظُمتِ التنازلات فلسطينياً ضمن موازين القوى القائمة، لا ينبغي أن ننزلق إلى التواطؤ في دفع المقاومة الفلسطينية إلى تدمير نفسها، لتعاود إسرائيل بعد ذلك الاستفراد بقطاع غزّة، واستئناف حرب الإبادة والتطهير العرقي ضدّ شعبها. الحل الواقعي أن تطالب الدول العربية والإسلامية واشنطن بأن يكون الاتفاق أكثر عدلاً وتوازناً، وألا تسمح لإسرائيل بأن تستفرد في توجيه دفّة القرار الأميركي من دون تبعات عليهما. وإذا لم تفعل الدول العربية والإسلامية هذا، فليس أقلّ من أن نطالبها بذلك، بدل أن يستنفد بعضنا جلَّ جهده في توبيخ المقاومة الفلسطينية، التي يعلم جميعنا أنها تقف أمام حتمية كارثية، إلا أن يشاء الله أمراً آخر يدّخره في غيبه، لا نعلمه نحن.

إغلاق