العقد الاجتماعي للتعليم في فلسطين.. ضرورة سؤال العدالة

العقد الاجتماعي للتعليم في فلسطين.. ضرورة سؤال العدالة

رام الله – الشاهد| كتب نسيم قبها: في ظلّ الاشتباك المجتمعي جرّاء تعطّل العملية التعليمية جزئيا وتضررها بشكل لافت ، وفي خضمّ التشظي الذي تعيشه فلسطين تحت نير الاحتلال، يبرز النظام التعليمي كساحة معركة وجودية. ليست مجرد قضية موارد أو مناهج، بل هي صراع على حق الوجود والمعرفة. هنا، حيث يتقاطع الاستعمار الاحلالي مع الإفقار ، ومع غياب التمثيل النقابي الحقيقي، يصبح تأسيس عقد اجتماعي تعليمي جديد في فلسطين ضرورة ثورية بحد ذاتها.

 

تشريح الأزمة: الاغتراب المزدوج

يواجه المعلم الفلسطيني اغتراباً مزدوجاً: اغتراباً وجودياً تحت احتلال يسلب الأرض ويصادر حق التفكير الحر، واغتراباً طبقياً في واقع نظام يهمش مكانته الاجتماعية ويحرمه من أبسط حقوقه الاقتصادية. هذه المعاناة ليست طارئة بل هي نتاج غياب “العقد الاجتماعي” الذي يفترض أن ينظم العلاقة بين المعلم والدولة والمجتمع.

في ظل هذا الغياب، أصبح التعليم وسيلة للتدجين أحياناً بدلاً من أن يكون أداة للتحرير. لقد تحول المعلم من “مثقف عضوي” كما وصفه غرامشي، قادر على تشكيل الوعي النقدي، إلى مجرد موظف في نظام يكرس التبعية أحياناً.

 

مقومات العقد الجديد: نحو “تربية تحررية”

لإعادة بناء العقد التعليمي، نحتاج إلى انتقال من “التربية البنكية” التي انتقدها باولو فريري، حيث يُعتبر الطالب وعاءً يملأ بالمعلومات، إلى “تربية تحررية” تزرع فيه روح المساءلة والنقد. وهذا يتطلب:

أولاً، الاعتراف بالمعلم كفاعل أساسي في عملية التحرر الوطني والاجتماعي. لا يمكن فصل قضية التحرر الوطني عن التحرر الاجتماعي، فالمعلم الذي يعاني من الإهانة الاقتصادية كيف له أن يعلّم كرامة المواطنة؟.

ثانياً، إقرار “عدالة توزيعية” تضمن حياة كريمة للمعلم، عبر نظام أجور عادلة يلبي الحاجات الأساسية ويحفظ الكرامة الإنسانية. فالمعلم الجائع لا يمكن أن يكون نبراساً للمعرفة.

ثالثاً، بناء نظام تمثيلي نقابي حقيقي، يكون مستقلاً وقادراً على الدفاع عن حقوق المعلمين ورفع صوتهم. نقابة حقيقية تكون ساحة للديمقراطية التشاركية، لا مجرد هيكل بيروقراطي كواقع اتحاد المعلمين حاليا.

 

آليات التطبيق: من النظرية إلى الممارسة

لتحقيق هذا العقد الاجتماعي الجديد، نقترح:

1. إنشاء “مجلس وطني للتعليم” مستقل، يضم ممثلين عن المعلمين والخبراء التربويين الاعتباريين والفرديين وأولياء الأمور، لوضع سياسات تعليمية تتجاوز الانقسامات وتخدم المصلحة الوطنية العليا.

2. تطوير “منهاج وطني تحرري” يعزز الهوية الفلسطينية والتفكير النقدي، ويواجه محاولات طمس التاريخ والذاكرة الجمعية.

3. إقرار “ميثاق شرف تعليمي” يحدد الحقوق والواجبات المتبادلة بين جميع أطراف العملية التعليمية، ويضمن جودة التعليم في ظل الظروف الاستثنائية.

4. إنشاء “صندوق وطني لدعم التعليم” لتمويل المشاريع التعليمية والتطويرية، وتأمين الموارد في مواجهة الحصار والاستهداف.

 

التعليم كفعل مقاومة

إن تأسيس عقد اجتماعي جديد للتعليم في فلسطين ليس مجرد إصلاح إداري، بل هو مشروع تحرري بامتياز. إنه استجابة لضرورة تاريخية تواجه شعباً يكافح من أجل وجوده وهوياته. فالتعليم في فلسطين ليس ترفاً، بل هو شكل من أشكال “المقاومة الوجودية” التي تصون الذاكرة وتصنع المستقبل.

في هذا السياق، يصبح المعلم الفلسطيني مجاهداً في ساحة المعرفة، يحمل على عاتقه مهمة الحفاظ على الهوية وبناء الأجيال. والعقد الاجتماعي الجديد هو الإطار الذي يمكنه من أداء هذه الرسومة الجليلة بكرامة وفعالية.

فلنعمل معاً على صياغة هذا العقد، عقد الكرامة والمعرفة والتحرر، لأنه لا حرية دون تعليم يحرر العقول، ولا تعليم يحرر العقول دون معلم حر يعيش بكرامة.

إغلاق