ديمقراطية على مقاس واحد.. ووطن يُصاغ خارج إرادة أبنائه

ديمقراطية على مقاس واحد.. ووطن يُصاغ خارج إرادة أبنائه

رام الله – الشاهد| كتب اسماعيل الريماوي: يتحدث القانون الدستوري عن طرق ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية في صياغة الدساتير، غير أن الحالة الفلسطينية اليوم تبدو وكأنها تقدّم نموذجاً سياسياً لم يشهده التاريخ من قبل، نموذجاً لا يشبه حتى أسوأ الأنظمة السلطوية، حيث يُعاد تشكيل المستقبل الوطني عبر إجراءات فوقية لا تعترف بالشعب ولا تمثله.

فالدستور وهو العقد الأعلى بين الناس والسلطة، يجري إعداد مسوداته في غياب كامل تقريباً لكل المؤسسات التي يفترض أن تكون شريكة في العملية، وكأن فلسطين تحوّلت إلى ساحة يُقرّر مصيرها في غرف مغلقة.

فأين المجلس التشريعي الذي يفترض أن يكون سلطة الرقابة والتشريع؟ وأين النقابات والاتحادات المهنية والجامعات والخبراء؟ وأين الأحزاب التي تعبّر عن التنوع السياسي والاجتماعي؟ وفوق ذلك كله، أين الشعب الفلسطيني، مصدر السلطات وصاحب الحق في تحديد شكل نظامه السياسي؟.

إن غياب هذه المكوّنات ليس تفصيلاً عابراً، بل هو جوهر الأزمة، لأن الدستور يُكتب اليوم بأيدٍ محسوبة على الرئيس، لا تملك اختصاصاً قانونياً، ولا تمثل إلا جهة واحدة، وكأن النص الدستوري المطلوب ليس ضماناً للحقوق والحريات، بل عباءة تُفصَّل على مقاس السلطة.

ومثلما يُصاغ الدستور بمعايير غير ديمقراطية، تُدار الانتخابات بالطريقة ذاتها، فالحديث عن انتخابات تشريعية ورئاسية يجري وكأنه مجرد إجراء شكلي لإعادة إنتاج سلطة هزيلة ينخرها الفساد والتآكل.

والمفارقة أن المشاركة في هذه الانتخابات محصورة في القوى التي تعترف بإسرائيل، وكأن الشرط الأول لممارسة السياسة هو قبول الاحتلال الذي يقتل ويهجّر ويصادر الأرض.

بهذا الشرط يتقلص المشهد السياسي إلى لون واحد يناسب حركة فتح وحدها، بينما تُقصى بقية القوى لا عبر صناديق الاقتراع، بل عبر شروط مسبقة تفرغ العملية من مضمونها وتحولها إلى احتفال وهمي بالديمقراطية.

وسط هذا الواقع، وصل المزاج الفلسطيني إلى مرحلة غير مسبوقة من فقدان الثقة بالسلطة، فبعد سنوات من الفساد والفساد المضاد، وبعد الحرب المدمرة على غزة وما رافقها من مجازر وحصار وتجويع، وبعد الاعتداءات المتواصلة في الضفة، بات الفلسطيني يشعر بأن السلطة انفصلت عنه تماماً، لم تعد تمثله أو تحمل همّه، بل تحوّلت إلى كيان لا يمثل إلا نفسه ومصالحه الضيقة، لا يسمع صوت الناس ولا يدافع عنهم ولا يشاركهم مأساتهم، لقد تآكلت شرعية السلطة إلى حد لم تعد فيه سوى سلطة للسلطة، تتحدث باسم الشعب دون أن تعود إليه، وتحدد مستقبله دون أن تمنحه حق القرار.

في ظل كل ذلك يصبح الحديث عن ديمقراطية فلسطينية حديثاً أقرب إلى الادعاء منه إلى الواقع، وتتحول محاولات صياغة دستور أو إجراء انتخابات إلى مجرد عملية مكياج سياسي، تخفي شروخاً عميقة في النظام السياسي لا يمكن ترميمها إلا بإعادة بناء العلاقة مع الشعب على أساس المشاركة والتمثيل والشفافية وإرادة الناس لا إرادة السلطة.

إغلاق