أن تدين مقاومة شعبك..!

أن تدين مقاومة شعبك..!

رام الله – الشاهد| خط الكاتب علاء الدين أبو زينة مقالاً حول تصريحات رئيس السلطة وزعيم حركة فتح محمود عباس بشأن إدانته لمقاومة الشعب الفلسطيني، وترديد رواية الاحتلال بشأن معركة طوفان الأقصى وما تلاها، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

أول من أمس، في مؤتمره الصحفي المشترك مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كرر رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، نفس التصريحات التي لطالما أثارت جدلًا واسعًا بين الفلسطينيين.

وكان مما قاله: «نجدد التأكيد على رفضنا وإدانتنا قتل وخطف المدنيين، بما في ذلك ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر. ومن ناحية أخرى نرفض معاداة السامية، لأنها ضد سياستنا وقيمنا.

ونتمسك بثقافة الحوار والسلام، وإننا نريد دولة ديمقراطية غير مسلّحة (وشدد على «غير مسلحة»)، ملتزمة بسيادة القانون والشفافية والعدالة والتعددية وتداول السلطة».

كان من الملفت بداية أن 14.600 تعليق من مستخدمي «فيسبوك» من الفلسطينيين والعرب (إذا جاز الاستدلال بتعليقات وسائل التواصل لتكوين لمحة عن الرأي العام) انتقدت بشدة هذا الخطاب تحت مقطع الفيديو الذي عرضه.

ولم يكن بين ما تمكنت من تصفحه من التعليقات تعليق واحد يمتدحه. ولا أعرف إذا قام أحد بحذف التعليقات المؤيدة، إن وُجدت.

وعبّر المُداخلون عن رفضهم لإدانة المقاومة، وضعف لهجة الخطاب، ورفض فكرة نزع السلاح الفلسطيني مع احتفاظ الكيان بترسانته الهائلة من السلاح، من بين أمور أخرى.

أثار التصريح مرة أخرى مسألة التمثيل الفلسطيني، وإلى أي مدى يُعبّر المتحدثون باسم الشعب الفلسطيني عن رأي هذا الشعب وعواطفه. يمكن أن يتداول الفلسطينيون في ما بينهم تقديراتهم لصوابية تحرك حماس في 7 أكتوبر، من حيث المردود وليس المبدأ، حيث لا مكان لوصف كل اشتباك مع العدو كمقاومة مشروعة وواجبة، ولا يمكن أن يكون «إرهابًا».

لكنّ ثمة منطقًا عمليًا في المطالبة بأن يتجنب الخطاب الموجه للعالَم إدانة الذات والاعتراف بذنب، ويركز على إدانة العدوّ. وثمّة معيار معقول لقياس صلاحية الخطاب: إذا كان هذا الخطاب يلتقي في أي نقطة مع سردية الكيان الاستعماري ورعاته الغربيين، فينبغي حذفه، والتركيز بدلًا من ذلك على السياق الكامل لسردية الصراع.

على ذلك، عندما يصف الرئيس عملية السابع من أكتوبر بأنها «قتل وخطف للمدنيين»، فإنه يكرر بالضبط تصريحات نتنياهو، وبايدن، وكل القادة الغربيين الذين تقاطروا إلى الكيان ومنحوه البركة للشروع في حملته الإبادية على غزة.

وكما حدَث، كانت سردية «قتل وخطف المدنيين» هي المرتكز الأساسي الذي أقام قادة الكيان عليه قضية معاقبة أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع وتدميره ومحاولة تطهيره عرقيًا.

ويُلاحظ أن معظم مناصري القضية الفلسطينية في المقابلات الكثيرة التي تملأ فضاء الإنترنت تجنبوا إدانة عملية أكتوبر وربطوها دائمًا بما سبقها، سواء كان الحصار المطول لغزة، أو عمليات الكيان المتكررة التي قتلت أعدادًا أكبر بكثير من المدنيين الفلسطينيين، أو حتى الأكثر من ثلاثة أرباع قرن من الاستعمار الاستيطاني العنصري والإبادي الذي عانى منه الفلسطينيون منذ قيام الكيان على تدميرهم.

عندما يتعلق الأمر باستطلاعات الرأي الرصينة التي تُجرى في فلسطين، حيث المواطنون مشتبكون مباشرة مع القيادة الفلسطينية ومختلف الفاعلين، فإن استطلاعًا أجراه «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» في الفترة بين 26 أيار (مايو) و1 حزيران (يونيو) 2024، أن 67 في المائة في إجمالي المستطلعين في الضفة والقطاع «يرون أن هجوم 7 أكتوبر كان قرارًا صحيحًا».

وأظهر استطلاع أجراه مركز «العالم العربي للبحوث والتنمية» (أوراد) في كانون الأول (ديسمبر) 2024 أن 52 في المائة من المستطلعين في غزة قالوا إنهم يأملون أن تُعيد حماس حكمها في غزة بعد الحرب، وأيد 64 في المائة في الضفة الغربية أن تكون حماس هي التي تدير غزة بعد الحرب.

وقد لا يدعم الفلسطينيون كل سياسات حماس وأعمالها، لكنهم يعتبرونها جزءًا من الشعب الفلسطيني وفاعل سياسي أو مقاوم يحق له المطالبة بالحكم أو المشاركة فيه.

أما «معاداة السامية»، فإننا لسنا مطالبين بالدخول في جدالاتها، خاصة وأن هناك اتجاهًا يلح على مساواتها بانتقاد نظام الاستعمار والفصل العنصري والإبادة الجماعية في فلسطين. ويغلب أن يكون الحديث عنها في السياقات الراهنة استرضاءً غير موفق للأنظمة الغربية المتواطئة هي نفسها في الإبادة الجماعية.

ومن المفارقات أن يترتب على الفلسطيني إعلان رفضه لمعاداة السامية بينما تُركب ضده إبادة جماعية باسم «محاربة معاداة السامية».وثمة التركيز (والتشديد في نبرة الخطاب) على عبارة «منزوعة السلاح» لوصف الدولة الفلسطينية المأمولة.

يبدو ذلك تخليًا غير ضروري عن حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال عسكريًا، وهو حقٌّ تكفله الشرائع الدولية، ثم حقهم في أن تكون لدولتهم –إذا ما تحققت- كل سمات السيادة والاستقلال، بما في ذلك امتلاك الأدوات التي تمتلكها كل الدول الطبيعية للدفاع عن نفسها.

ويرى كثيرون في هذا تمسكًا بفكر السلطة الفلسطينية منذ أوسلو: منطق التسوية بالاستسلام، وتصوُّر أن «السلام» يمكن أن يأتي من نزع السلاح والخضوع لإرادة القوة الاستعمارية.

وفي الحقيقة، لم يحدث ما ينفي فشل هذا الفكر طوال 37 عامًا. بل إن ظهور عباس في مختلف المحافل والاستماع إليه مجدًّا بعد الإهمال الطويل أتاحه فقط فعل المقاومة في غزة.

يمكن أن يقرأ كثير من الفلسطينيين ومناصريهم في تصريحات الرئيس تطابقًا كاملًا مع مشروع أميركا والكيان لإعادة ترتيب غزة بعد الحرب، وتحويلها إلى كيان منزوع الإرادة والسلاح، خاضع لإشراف سلطة استعمارية خارجية تحت غطاء «السلام وإعادة الإعمار».

ويبدو التصريح (بالإضافة إلى تصريح لصحيفة «لوفيغارو» في نفس الزيارة بأن «حماس لن يكون لها دور في إدارة غزة»)، وكأنه يتبنى لغة القوى التي تسعى إلى تدجين الفلسطينيين سياسيًا وتجريدهم من كل أداة للمقاومة.

قد يفكر الفلسطيني بهذا الخطاب على أنه مهين ومنفصل عن الواقع، يشرعن رواية العدو ويُضعف الموقف الوطني ويؤكد على تقسيمه في لحظةٍ تشهد بوادر تحولٍ دوليٍّ، شعبي ورسمي، نحو مساءلة الكيان عن جرائمه وشرعنة المقاومة الفلسطينية.

وقد يجد البعض أن عباس يكرر خطيئة أوسلو الأصلية: التخلي عن الكفاح المسلح لقاء وعود ماكرة وغير مصلحة بسلام وسيادة لم يتحققا أبدًا. وبالإجمال، يبدو هذا أقرب إلى خطاب موظف إدارة في منظومة سيطرة استعمارية منه إلى خطاب زعيم وطني، حيث منطق الاسترضاء غير المجدي يلغي تمامًا خطاب المواجهة والإصرار على الحقوق، والدفاع الواجب عن كل مكونات الشعب وتبرير نضالها بكل الوسائل المشروعة.

إغلاق