غزة تصرخ: متى تتحررون لتدافعوا عنا؟
رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول استمرار أعلايب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحكومة الاحتلال وبتواطؤ من قبل بعض الأنظمة العربية بشأن وقف الحرب على قطاع غزة، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
في غزة اليوم تُسفك الدماء وتُباد العائلات تحت أنقاض منازلها، ويُدفن الأطفال بعيون مفتوحة وكأنها تسأل: أين أنتم؟ سؤال يطارد الضمير الإنساني، لكن من المؤلم أن الإجابة لم تأتِ من جوارنا العربي، بل من إسبانيا البعيدة.
هناك لم تنتظر الحكومة اجتماعات طويلة وقمم مكررة ولا بيانات مائعة لتُعلن موقفها، بل تحركت خلال أيام قليلة بخطوات مدوية: أوقفت تصدير السلاح للكيان المحتل، منعت مرور أي شحنات عسكرية عبر موانئها وأجوائها، ألغت صفقة تسليح بسبعمئة مليون يورو، فرضت قيوداً على منتجات المستوطنات، وأدرجت مسؤولين صهاينة على قوائم الحظر، ورفعت مساعداتها الإنسانية للفلسطينيين، واعترفت رسمياً بدولة فلسطين، بل دعمت دعاوى الإبادة أمام محكمة العدل الدولية وطالبت بحرمان إسرائيل من المشاركة في الفعاليات الرياضية والفنية الدولية.
هذه القرارات لم تكن نزوة سياسية، بل ثمرة تاريخ طويل من المواقف المتوازنة، فمنذ النكبة امتنعت إسبانيا عن الاعتراف بالكيان حتى عام 1986، وعندما اعترفت بها كانت آخر الملتحقين في أوروبا الغربية، واليوم وبعد عقود، انتقلت من موقع آخر من اعترف بالكيان إلى موقع الدولة الأوروبية الأولى التي تجرأت على كسر الإجماع الغربي، ووضعت فلسطين على الخارطة كدولة ذات سيادة، إنها لحظة تاريخية تُعيد الاعتبار للعدالة، وتُثبت أن الشعوب الحرة قادرة على تغيير مسار حكوماتها.
السر في هذا الموقف الإسباني لا يكمن في قوتها الاقتصادية أو العسكرية، بل في طبيعة نظامها الديمقراطي، فإسبانيا بلد تحكمه مؤسسات دستورية تخضع لضغط الرأي العام، حكومة تعرف أن مصيرها بيد الشعب، وأن الشارع إذا هتف فلن يكون الصوت مجرد صدى، بل قوة سياسية ملزمة. مئات الآلاف خرجوا في مدريد وبرشلونة ومدن أخرى يرفعون علم فلسطين ويهتفون بالحرية، فلم يكن أمام الحكومة سوى أن تسير مع شعبها لا ضده، لأن شرعيتها تُستمد من الناس لا من الخارج، من ثقة المواطنين لا من أجهزة القمع.
أما الاعراب، أصحاب الأرض والتاريخ والقضية، فالمشهد أشد إيلاماً، فلم نرَ دولة عربية واحدة تسحب سفيرها من تل أبيب، أو تُعلن قطع العلاقات السياسية والاقتصادية، أو تُوقف التطبيع الذي تحوّل إلى سباق مخزٍ، بل إن بعض الأنظمة تسابقت لتعميق التعاون الأمني والاقتصادي مع الكيان، وكأن الدم الفلسطيني لا يعنيها، والأسوأ من ذلك أن الشعوب لم يُسمح لها حتى بالتعبير عن تضامنها، فالمظاهرات الشعبية قمعت بعنف، والأصوات الحرة سُجنت، واللافتات صودرت، والمتضامنون الأجانب شُوّهوا واتُهموا بالعمالة، فيما شاركت بعض الحكومات في حصار غزة وتجويعها وتشويه مقاومتها عبر إعلامها المأجور.
أي مفارقة أفظع من أن تكون مدريد أقرب إلى غزة من عواصمنا؟ أي خزي أشد من أن نرى الحرية تُرفع في ساحات أوروبا بينما يُقمع صوتها في قلب الأمة؟ لقد أصبح واضحاً أن الفارق ليس في الإمكانيات ولا في القوة، بل في طبيعة النظام السياسي نفسه: هناك ديمقراطية تحترم شعوبها وتُصغي لصرخاتهم، وهنا استبداد يكمم الأفواه ويخشى أن ينطق الناس بكلمة حق.
لقد أثبتت إسبانيا أن الشعوب حين تتحرر يُصبح صوتها أقوى من السلاح، وأن الديمقراطية قادرة على تحويل تضامن جماهيري إلى مواقف سياسية تزلزل العالم، بينما أثبتت أنظمتنا أنها قادرة على إسكاتنا حتى ونحن نصرخ من أجل قضية هي قضيتنا، ومن اجل دما ينزف هو دمنا، فهي فقط قادرة على تجريد الأمة من أبسط حقوقها: حق التعبير عن آلامها.
إن الطريق إلى فلسطين لا يبدأ من مدريد ولا من أي عاصمة غربية، بل من داخلنا نحن، من بناء أنظمة سياسية حرة تُصغي لشعوبها وتثق بها، يوم نكسر قيد الاستبداد ونعيد للشعب مكانته، سيكون لفلسطين سندٌ أقوى من كل التضامن الخارجي. يومها لن ننتظر أن يتحدث الآخرون باسمنا، ولن نُحرج بمقارنة بين إسبانيا والعرب، بل ستكون أوطاننا هي من تُبادر وتُقرر وتُصنع التاريخ.
حتى ذلك اليوم، ستظل غزة تنزف وحدها، وسيظل أطفالها يرحلون وعيونهم معلقة علينا، كأنهم يسألون: متى تتحررون لتدافعوا عنا؟
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=94671