متى يبلغ السيل الزبى عند السلطة الفلسطينية؟

متى يبلغ السيل الزبى عند السلطة الفلسطينية؟

رام الله – الشاهد| كتب نزار السهلي.. لو قُدِّر لقافلة الراحلين من رموز فلسطين مع شهداء فلسطين عبر التاريخ أن تستمع إلى ما يقوله رئيس السلطة الفلسطينية عن شعبهم ودولتهم ومقاومتهم لمحتلّهم التاريخي الاستعماري، لما احتاروا في وصف المقولة والسياسة والنهج الذي أوصل شعبهم إلى هذه الحالة مع “القيادة الفلسطينية” والسلطة، ومع الاحتلال. فقول الأجداد، عندما يكون أمر أو حدث يتخطّى الواقع المألوف ويتعدّى القدرة على الاحتمال، هو القول المأثور: “بلغ السيل الزبى”. وهذا السيل الذي يحكم علاقة السلطة الفلسطينية بقضية شعبها، بهذا الأداء المتهاون سلوكًا وخطابًا، مع سيل العدوان الإسرائيلي الجارف للأرض والحقوق، هو الطامّة الكبرى، التي تحاول فيها السياسة الفلسطينية تقديم نفسها بنفسها منذ عقود ما بعد أوسلو.

في المقابل، يتلقّى الشعب الفلسطيني والمجتمع الدولي سلوكًا وخطابًا إسرائيليًا مشبعًا بالفاشية، إذ وجّه بنيامين نتنياهو من على منصة الأمم المتحدة خطابه للمجتمع الإسرائيلي، وكرّر جملة الأكاذيب، وركّز على يهودية “الدولة”، وشيطنة الكل الفلسطيني. خاطب نتنياهو أنصار اليمين الصهيوني في الولايات المتحدة والغرب، وبأن مشتركات كثيرة تجمع الصهيونية معهم في الدفاع عن قيم مشتركة من خلال دفاعه عن جرائم الإبادة الجماعية.

لم ينفع سلوك وخطاب السلطة في رام الله منذ أوسلو وإلى اليوم في تحصيل الحقوق الفلسطينية، إذ يكرّر بنيامين نتنياهو خطابه الفاشي أمام العالم، ويردّ على خطاب السلطة بأن لا وجود لدولة فلسطينية، بل هناك دولة “يهودية” بالمعنى التوراتي التلمودي. ويخبرنا أن بن غفير وسموتريتش وبقية الفاشيين في حكومته يتمتعون بإجماع شعبي إسرائيلي. وكرّر نتنياهو سردية “الوحش الإسلامي” بكلام مليء بالغطرسة والكذب وقلب الحقائق، وعن حربه على سبع جبهات، وقدرة جيشه على السيطرة والتفوق والعدوان على المنطقة كلها، ونفى جرائم التجويع والإبادة. ذلك أبرز ما قدّمه نتنياهو في خطابه لمجتمع دولي غادر معظمه القاعة التي خطب منها، وبقي لديه بضع مصفّقين دعاهم لوبي بعثته، وأعاد تكرار مشروع الهيمنة وحلم السيطرة الصهيونية على المنطقة. حاول نتنياهو الدفاع عن نفسه بنفي ارتكاب جرائم الإبادة والتجويع، ولصق تهمة الإرهاب بشعب تحت الاحتلال يقاوم محتله.

الفلسطينيون لم يكونوا متسلّحين بعتاد عسكري للتفوّق على محتلّهم وهزيمته عسكريًا، ولن يطمح شعب فلسطين عبر تاريخ نضاله إلى بناء ترسانة عسكرية لمواجهة أعتى فاشية على وجه الأرض، لكنه ما زال يحتفظ بإرادة وصلابة مواجهة الاحتلال والمؤسسة الصهيونية. وتفكيك هذه الإرادة والصلابة يتمّ من خلال الاحتلال والاستيطان، وكذلك نهج السلطة الذي فشل طيلة عقود، وهو ما تحاول تكراره في مناسبات خطابها للمجتمع الدولي، الذي تقر قوانينه وشرائعه حق المقاومة المشروعة لأي شعب تحت الاحتلال بكل الوسائل التي يمتلكها. وكل التعاطف حول فلسطين والشعب الفلسطيني الذي يجتاح شوارع قارات العالم ليس لأن السلطة الفلسطينية نجحت بخيار تفكيك الإرادة الفلسطينية، وليس لأن شعب فلسطين يتمتّع ببطولة عسكرية خارقة، ولا ينبع من نجاح الاحتلال بإلحاق هزيمة كبرى بالفلسطينيين بكيّ وعيهم وسحقهم وإبادتهم، بل من الفشل المشترك في الرهان على هذه السياسة.

يوجّه مجرم حرب خطابه للشعب الإسرائيلي، ولجنوده المجرمين الثناء على كل ما اقترفوه من جرائم، مقابل خطاب فلسطيني يحاول التبرؤ من كل تاريخ التضحيات ومقاومة المحتل، واستعداده لشطب ونزع إرادة شعب عن مواجهة غطرسة محتله.

التزام السلطة بالاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود لم يُقابل منذ العام 1988 و1993، وإلى الآن، كما كرّر أبو مازن، باعتراف إسرائيلي بأيّ من الحقوق التي تآكلت بفعل الاستيطان والعدوان والتهويد، وبفعل الرهان على أوهام. إذ يكرّر نتنياهو مقولة: أعطيناهم أراضي وهم رفضوا السلام معنا.

فالقول الفلسطيني الرسمي بالتعهّد بمراجعة مناهج التعليم والسياسات المالية التي تخص الأسرى والشهداء والجرحى، وغيرها، لا يوجد مقابل له في المؤسسة الفاشية الصهيونية، التي ترفع من منسوبها ليس فقط في مناهج التعليم التلمودية – التوراتية، بل في خطاب السياسة اليومية ووقائعها على الأرض.

خطاب العجز للسلطة بالتخلّي عن كل مكامن القوة للدفاع عن الأرض والشعب أفقد الفلسطينيين المزيد من حقوقهم. فحين يتابع الفلسطيني والعربي والغربي على سبيل المثال خطاب الرئيس الكولومبي والتشيلي والخطاب الإسباني حول قضية فلسطين، مع جملة مواقف من جرائم الإبادة الجماعية ومطالب مقاطعة وحصار إسرائيل، ويقارنها مع خطاب تقزيم الذات الفلسطينية، والتمترس خلف الرواية الصهيونية بمسؤولية عنف الضحايا عن تدهور القضية بخطاب فلسطيني وعربي، يجد المرء أن كل ما تبعثر وتبخّر من تلك الأوهام باستمرار القفز عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني لم يُغيّر عقلية البؤس الفلسطيني، ولم يُغيّر طريقة وأداء ومسلك السلطة الفلسطينية، التي تثير الفزع. فهذه المعادلة باتت أوضح من الكف المفتوح في تداعي الحقوق والثوابت الفلسطينية، مقابل تأكيد التفاصيل الإسرائيلية المرتكزة على أساسات الرؤية الصهيونية للحل بمعناه البعيد والقريب، من قضية الأرض بالاستيطان والتطهير العرقي، وقتل المدنيين وحصرهم ضمن معازل فصل عنصري.

المتتبّع ولو مليًا لاستراتيجية العمل الفلسطيني الرسمي وخطاب السلطة في رام الله، أمام الكمّ الهائل من العدوان الإسرائيلي والمستند إلى أباطيل صهيونية، سيلاحظ مدى انضباطية عقليتها وتحولها ببراعة إلى كيس لتلقّي لكمات وضربات المحتل وإهانته وإذلاله لها. ومحاولة السلطة إخفاء إخفاقها الموغل في الخيار المرير والمميت للبدائل، هي تعبير عن نهج قديم وسياسة مقيتة تساوم شعب فلسطين، إلى جانب محتله، على مبادئهم وتاريخهم وإنسانيتهم. هذا هو الواقع الفلسطيني بمرارته وبؤسه الذي ترك الحبل على غارب سلطة مشلولة الإرادة، تتخذ من الركود الداخلي والشلل والتبعثر والشقاق الداخلي لإرساء حلول تضمن وظيفة سلطة تقول للعالم: نحن مستعدّون لحكم غزّة كما حكمنا رام الله، بينما المحتل استطاع هضم كل الخطاب الفلسطيني، ليس بخطاب نتنياهو فقط، بل بما يقوم به على كل أراضي الدولة التي لن يكون لها وجود بحسب خطط وسياسات لها معنى واحد: أن لا يكون كيان سياسي وطني فلسطيني بأي معنى وسيادة. فمتى يبلغ السيل الزبى عند السلطة الفلسطينية وعند عمقها العربي؟

إغلاق