عامان على الطوفان.. فلسطين تعود إلى الواجهة و”إسرائيل” تغرق في عزلتها

عامان على الطوفان.. فلسطين تعود إلى الواجهة و”إسرائيل” تغرق في عزلتها

رام الله – الشاهد| حط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى” والتي أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث ووضعتها في مسارها الصحيح، في مقابل عزل الاحتلال وإساءة وجهه أمام العالم، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

بعد عامين على اندلاع طوفان الأقصى، يبدو أن رياح أكتوبر 2023 لم تكن عاصفة عابرة في سماء الصراع، بل كانت زلزالًا غيّر شكل المنطقة ومعناها، أعاد ترتيب الوعي، وأسقط أوهام التفوق الإسرائيلي الذي كان يُسوّق له كحقيقة مقدسة لا تُمس، لقد أراد الاحتلال أن تكون تلك الحرب نهاية الحكاية الفلسطينية، فإذا بها تتحول إلى بداية فصل جديد كتبه الفلسطينيون بدمهم وصمودهم وإرادتهم التي لم تنكسر.

منذ السابع من أكتوبر، تغيّر كل شيء، ليس فقط في غزة التي تحوّلت إلى مرآة لضمير العالم، بل في صورة إسرائيل ذاتها التي وجدت نفسها للمرة الأولى أمام امتحان وجودي لا عسكري فحسب بل أخلاقي أيضًا، إسرائيل التي كانت تتغذى على وهم الحصانة الدولية أصبحت اليوم عنوانًا للمساءلة والملاحقة، ومن كانت تعتبر نفسها «واحة الديمقراطية» في الشرق الأوسط صارت في عيون شعوب الأرض دولة فصل عنصري تمارس الإبادة، تحاصر الأطفال وتجوعهم، وتقتل الأبرياء باسم الأمن.

أما الفلسطينيون الذين خرجوا من تحت الركام، فقد أثبتوا أن الاحتلال مهما بلغ من جبروت لا يمكنه كسر إرادة الحياة، لقد استحال الحصار إلى مدرسة، والدم إلى لغة مقاومة، والدمار إلى نداء عالمي حرّك الضمائر وأعاد القضية إلى قلب المشهد الإنساني والسياسي معًا، فبعد عقود من محاولات طمس الهوية وتشويه الرواية، عاد الفلسطيني إلى الواجهة لا كضحية فقط، بل كصانع للتاريخ، وكصوت يطالب بالحرية لا بالشفقة .

في العامين اللذين تليا الطوفان، شهد العالم انقلابًا في المزاج العام تجاه إسرائيل، الملايين خرجوا في شوارع لندن وواشنطن وباريس ومدريد، لا ليطالبوا بالسلام كما كان يحدث في الماضي، بل ليصرخوا ضد الاحتلال وليعلنوا أن الصمت جريمة.، الجامعات قادت العصيان الأكاديمي ضد التطبيع، والمثقفون الغربيون بدأوا يتحدثون عن فلسطين بوصفها قضية عدالة إنسانية لا نزاعًا سياسيًا، حتى في قلب العالم الغربي، الذي كان يومًا السند الأعمى لتل أبيب، بدأ الشك يتسلل إلى العقول والقلوب: أي ديمقراطية هذه التي تُبنى على أنقاض الأطفال؟

أما داخل إسرائيل، فالمشهد ليس أقل مأساوية، الانقسام الداخلي بلغ ذروته، الثقة بالمؤسسة العسكرية تبخّرت، والاقتصاد يترنّح تحت وطأة الحرب والعزلة والعجز. نتنياهو الذي دخل الحرب بوهم القوة خرج منها محاصرًا بفشله، تحاصره الشوارع الغاضبة والدعاوى الدولية وذكريات الهزيمة التي لن تُمحى، الجيش الذي قيل إنه لا يُقهر، صار اليوم مرهقًا مثقلاً بالفقد والشك والخوف من مواجهة مقاتلين يقاتلون من تحت الأرض ومن فوقها بإيمان لا يُقاس بالعتاد.
في المقابل، خرجت غزة من تحت الأنقاض كرمز للثبات، صامدة رغم الجوع والدمار، حاضرة رغم محاولات التهجير، لتقول للعالم إن الجغرافيا قد تُقصف ولكن الإرادة لا تُقهر، فصائل المقاومة لم تعد مجرد مجموعات مسلحة، بل تحولت إلى حالة وطنية جامعة أعادت للفلسطينيين روحهم الجمعية ووحدتهم حول خيار المقاومة، بعدما سقطت كل رهانات المفاوضات العقيمة.

اليوم وبعد عامين على الطوفان، تتغير معادلات الشرق الأوسط ببطء ولكن بثبات، إسرائيل التي كانت تفرض شروطها على الجميع، باتت هي من يُفرض عليه العزلة والرقابة والمساءلة، بينما القضية الفلسطينية عادت إلى صدارة النقاش الدولي كقضية حق لا كملف نزاع، حتى أولئك الذين حاولوا تطبيع الوعي العربي مع الاحتلال وجدوا أنفسهم في مواجهة شعوبهم التي لم تعد تقبل الصمت أمام المجازر.

ربح الفلسطينيون معركتهم السياسية رغم الخسائر الميدانية والإنسانية الفادحة، لأنهم نجحوا في إعادة تعريف المعركة نفسها، لم تعد المسألة صراع حدود أو اتفاقيات، بل معركة وجود بين من يريد أن يعيش بحرية ومن يريد أن يواصل القتل بلا حساب، وفي المقابل خسرت إسرائيل أهم ما كانت تملكه: صورتها الأخلاقية وقدرتها على خداع العالم .

إن مرحلة ما بعد الطوفان ليست استمرارًا لما قبلها، إنها زمن جديد تخلّق من رحم النار والدمار، زمنٌ تتصدع فيه الأساطير وتنهض فيه الحقيقة من تحت الركام. والفلسطيني، كما في كل مرة، ينهض من بين الرماد، يحمل على كتفيه ذاكرة الجرح، لكنه يمشي بثبات نحو فجر الحرية، واثقًا أن الطوفان لم يكن نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية .

إغلاق