حين يسود الفراغ وتُطفأ القيم.. يعلو صراخ التافهين وتحاصر المقاومة

حين يسود الفراغ وتُطفأ القيم.. يعلو صراخ التافهين وتحاصر المقاومة

رام الله – الشاهد| كتب اسماعيل الريماوي: في الوقت الذي يواجه فيه الشعب الفلسطيني حربًا مفتوحة على وجوده، تُقصف فيه البيوت فوق رؤوس أصحابها ويُحاصر فيه مليون طفل بالجوع والمرض، وبينما يقف المقاومون حاملين البندقية في الميدان، يظهر على السطح صوتٌ آخر لا يقل خطورة عن رصاص الاحتلال، صوت ذباب واذناب السلطة وبعض قيادات الذين جعلوا من مهاجمة المقاومة مهمةً يومية، كأنهم يتعمدون تقويض ما تبقى من روح وطنية.

هذا الصوت، الذي اعتاد البحث من هنا او هنا عن اي “تفصيل تافه” من مباراة كرة قدم او من مقال رأي حر او من مقابلة تلفزيونة، ليصنع منه هجومًا على المقاومة، مما يعكس انهيارًا عميقًا في منظومة القيم، وانغماسًا كاملًا في ما يسميه الفيلسوف آلان دونو “نظام التفاهة”.

آلان دونو، في كتابه الشهير، يصف عصرًا ينهار فيه معيار القيمة، ويتقدم فيه من لا يحملون شيئًا سوى القدرة على الظهور والادعاء والسطحية، وهي عبارة تبدو وكأنها تصف تمامًا حال المشهد الذي تسلل إليه خطاب الرداءة، وصعدت فيه إلى الواجهة أصوات بلا مضمون، بلا مشروع، بلا رؤية، لكنها تمتلك قدرة هائلة على التشويش وعلى مهاجمة أكثر من يحملون الوطن فعلًا لا قولًا.

لقد صار من المعتاد أن نرى من يصمت أمام جرائم الاحتلال، ويُبرّر التنسيق الأمني، ويغضّ الطرف عن قتل الأطفال في غزة والضفة، لكنه في المقابل يشنّ حربًا شرسة على المقاومة إذا أخطأ مقاتل في كلمة، أو إذا ظهر مقطع فيديو لمقاتل يعبر عن غضبه، أو إذا لم تُعجبهم طريقة لبس أحد عناصر المقاومة، تفاهات تتحول إلى معارك، وصغائر تُقدَّم على أنها قضايا وطنية، بينما يتم تجاوز كل ما هو جوهري وحقيقي وعميق.

هذا المشهد لا يمكن فهمه إلا من خلال “نظام التفاهة” ذاته، ففي هذا النظام، كما يشرح دونو، لا يعود معيار التقدّم هو الفكرة أو القيمة أو الأخلاق، بل القدرة على الظهور، والجرأة على الانحدار، والقدرة على التلاعب بالجمهور، وفي ظل غياب المؤسسات الديمقراطية، وضعف الثقافة السياسية، وانهيار المشروع الوطني، وجدت التفاهة بيئتها المثالية للنمو؛ ونمت على حساب الكلمة الحرة، وعلى حساب الوعي الحقيقي، وعلى حساب المقاومة ذاتها.

وسائل التواصل الاجتماعي أيضًا لعبت دورًا مركزيًا في صناعة هؤلاء، فبمجرد أن يمتلك شخص ما القدرة على الصراخ، أو على خلق جدل فارغ، أو على مهاجمة المقاومة بعبارات مسيئة، يجد نفسه محاطًا بصفحاتٍ ومؤثرين ودوائر مصالح تدعمه، لأن خطابه يخدم السلطة ومصالح المحتل ويضعف المقاومة في لحظة يحتاج فيها الوطن إلى كل صوت صادق، وهكذا، تُفتح المنابر لأكثر الناس تفاهة، ويُمنع أصحاب الرأي الشجاع من الظهور، ويتم تحويل النقاش الوطني إلى زحام من الأصوات التي تشبه الصدى: ضجيج بلا معنى.

والأخطر أن التفاهة لم تعد مجرد سلوك فردي أو ظاهرة موسمية، بل تحولت إلى منظومة متكاملة، منظومة تُكافئ الولاء على حساب الكفاءة، وتفضل الصمت أمام الاحتلال او الاصطفاف معه على حساب الجرأة في مواجهته، وتمنح الأضواء لمن يهاجمون المقاومة، وتقصي و تهاجم من يتجرأ على قول الحقيقة، هذه المنظومة تُعيد إنتاج ذاتها باستمرار، عبر إعلام رسمي هش، ومؤسسات سياسية فقدت مشروعها و مشروعيتها، في ظل تيارات اختارت سلطة الوهم بدلًا من البحث عن الحرية و القرار الحر و تقرير المصير.

لكن رغم كل هذا، هناك حقيقة واحدة لا يمكن تجاهلها: التفاهة لا تصنع تاريخًا، قد تحتل المساحة لبعض الوقت، وقد تملأ الساحة بالضجيج، وقد تُربك الجمهور بعبارات مدروسة واتهامات جاهزة، لكنها لا تستطيع أن تلغي جوهر الصراع، ولا أن تمحو مكانة المقاومة، ولا أن تكتب مستقبل الوطن، فالتاريخ لا يكتبه أصحاب الضجيج، بل الذين سقطوا شهداء في الميدان، والذين حملوا أرواحهم على أكفهم دفاعًا عن الأرض، والذين واجهوا الاحتلال بصدورهم العارية.

ولذلك فإن مقاومة “نظام التفاهة” ليست مجرد معركة فكرية، بل معركة وطنية كبرى، تبدأ حين يستعيد الناس احترامهم للقيم، وحين يرفضون تحويل المقاومة إلى مادة للتندر والتحريض، وحين يدركون أن من يهاجم المقاومة يخدم الاحتلال بشكل مباشر، وتبدأ حين يعود الصوت الوطني الحقيقي إلى الواجهة، صوت الذي يقف مع الحقيقة مهما كلّف الامر، وصوت الذي يصون كرامة الشهداء ولا يساوم عليها، وصوت الذي يعرف أن الوطن أكبر من كل الحسابات .

إن مواجهة التفاهة ليست ترفًا، وليست نقاشًا هامشيًا، بل ضرورة لإنقاذ الوعي الوطني من الانهيار، وحين يهزم الشعب التفاهة، يكون قد هزم واحدًا من أخطر أسلحة الاحتلال غير المباشرة، ويكون قد أعاد بناء وعيه على أساس الصدق والفعل والكرامة، وهي القيم التي قامت عليها المقاومة منذ يومها الأول.

إغلاق