الخطاب المهزوم أخطر من القصف.. كيف يُروَّج للاستسلام تحت اسم العقلانية

الخطاب المهزوم أخطر من القصف.. كيف يُروَّج للاستسلام تحت اسم العقلانية

رام الله – الشاهد| كتب د. إسماعيل المسلماني: في زمن الحروب والصراعات، لا تُخاض المعارك فقط بالسلاح، بل بالكلمات أيضًا.

فكما أن القصف يهدم البيوت، فإن الخطاب المهزوم يهدم النفوس. إنه ذلك الصوت الذي يتسلل إلى العقول، لا ليقنعها بالهزيمة، بل ليجعلها تبدو منطقية، عقلانية، بل ضرورية.

العقلانية الزائفة: حين يُعاد تعريف الشجاعة

يُروَّج للاستسلام على أنه “حكمة”، ويُصوَّر التمسك بالمقاومة على أنه “مراهقة سياسية”. يُقال إن الواقعية تقتضي القبول بالهزيمة، وإن العقلانية تعني التفاوض حتى لو كان الثمن التخلي عن الحقوق. لكن هذه “العقلانية” ليست إلا قناعًا للهزيمة، يُلبَس للناس كي لا يشعروا بالخزي، بل بالرضا.

الإعلام كأداة تطبيع للهزيمة

تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في إعادة تشكيل الوعي الجمعي. تُسلَّط الأضواء على “الدمار” و”الخسائر”، وتُهمَّش صور الصمود والمقاومة. يُستضاف محللون يكررون أن “لا جدوى من الاستمرار”، وأن “العدو أقوى”، وأن “الوقت حان للواقعية”، وهكذا، يتحول الخطاب من دعم القضية إلى تبرير التخلي عنها.

أخطر من القصف: تفكيك الروح المعنوية

القصف يقتل الجسد، لكن الخطاب المهزوم يقتل الروح. حين يُقنع الإنسان بأن مقاومته عبثية، فإنه يتخلى عن ذاته، عن كرامته، عن حلمه. وهذا أخطر من أي سلاح. لأن الشعوب التي تفقد إيمانها بقضيتها، تصبح قابلة للتطويع، للتنازل، وللنسيان.

المقاومة كفعل عقلاني:

العقلانية الحقيقية لا تعني الاستسلام، بل تعني فهم الواقع دون التخلي عن المبادئ. المقاومة ليست فعلًا عاطفيًا، بل خيارًا استراتيجيًا. كما قال المفكر الصيني “سون تزو”: _”أفضل نصر هو الذي يتحقق دون قتال، عبر تفكيك معنويات العدو من الداخل”. وهذا ما يجب أن ننتبه له: أن لا نسمح للخطاب المهزوم أن يُفككنا من الداخل.

من يكتب التاريخ؟

في النهاية، لا يكتب التاريخ من يرفع راية النصر فوق الخراب، بل من يزرع الأمل في قلب الركام. الخطاب المهزوم قد يبدو عقلانيًا اليوم، لكنه يُنسى غدًا. أما صوت المقاومة، فيبقى حيًّا في الضمير، حتى لو خفت لفترة.

ثقافة الهزيمة: من خطاب الصدمة إلى منهج الاستسلام

تُعدّ “ثقافة الهزيمة” واحدة من أخطر الأدوات التي تُستخدم في مراحل الصراع الطويل، سواء كان عسكريًا أو سياسيًا أو ثقافيًا. وهي لا تقتصر على الشعور النفسي بالهزيمة بعد نكسة أو حصار، بل تتحول مع الوقت إلى منظومة فكرية وإعلامية موجّهة تهدف إلى إعادة تشكيل وعي الشعوب وإقناعها بأن المقاومة عبثية، وأن القبول بشروط الخصم هو السبيل الوحيد للنجاة أو “الواقعية”.

في المراحل الأولى من الصراع، تُواجه الشعوب الصدمات الكبرى بعزيمة أو صمود، لكن مع مرور الوقت وارتفاع كلفة المواجهة، يبدأ خطاب جديد بالظهور على ألسنة نخب إعلامية أو سياسية أو ثقافية. هذا الخطاب لا يأتي غالبًا من الخصم المباشر، بل من داخل المجتمع نفسه، مما يمنحه مصداقية شكلية ويجعله أكثر تأثيرًا من الدعاية المعادية المباشرة.

في الحالة الفلسطينية، يتجلّى هذا بوضوح في السنوات الأخيرة، وخصوصًا في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة منذ أكثر من عام. مع اشتداد الحصار وتفاقم الكارثة الإنسانية، بدأ بعض المثقفين والإعلاميين يروّجون لفكرة أن “حماس كان عليها أن تقبل قبل عام بما يُطرح اليوم”، وأن أي رفض حالي يُعدّ “تعنتًا غير مبرر”. هذا الخطاب لا يهدف إلى تقديم تقييم موضوعي للخيارات، بل إلى نزع الشرعية عن الموقف المقاوم وتصويره كمصدر البلاء، متجاهلين أصل العدوان الإسرائيلي وشروطه غير العادلة.

غزة اليوم: إعادة إنتاج خطاب الهزيمة

في أواخر أيلول 2025، ومع تزايد الضغوط السياسية والعسكرية والإنسانية، عاد هذا الخطاب بقوة تحت عناوين تبدو “عقلانية” أو “إنسانية”. فقد طرحت الإدارة الأميركية، بقيادة ترامب، خطة وصفتها أطراف فلسطينية وعربية بأنها “استسلام بشروط إسرائيلية”، تتضمن ترتيبات أمنية مشددة، وبقاء السيطرة الإسرائيلية غير المباشرة، وربط الإعمار بقبول هذه الشروط.

اللافت أن بعض الأصوات داخل الساحة الفلسطينية والعربية سارعت إلى تبني الخطة باعتبارها “الفرصة الأخيرة” و“الحل الواقعي”، مستخدمة نفس المفردات التي لطالما استُعملت في مراحل الهزيمة السابقة: “تجنيب الشعب المزيد من المعاناة”، “الواقعية السياسية”، “القبول بما هو ممكن”. وفي المقابل، يُصوّر أي رفض فلسطيني للخطة على أنه تهور، أو إصرار غير مبرر على “اللا شيء”.

هذا النمط من الخطاب يتجاهل حقيقة أن الشعب في غزة صمد أكثر من عام تحت حرب غير مسبوقة، وأن أي تنازل تحت الضغط يُكرّس منطق القوة ويحوّل الإنجازات السياسية والعسكرية إلى أوراق ضغط لصالح العدو. كما أنه يغفل أن جوهر الخطة المطروحة لا يحقق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، بل يعيد صياغة الاحتلال في صورة “ترتيبات أمنية دولية”.

دروس من التاريخ:

ما يجري اليوم في غزة ليس جديدًا؛ بل هو تكرار لأنماط سابقة في العالم العربي بعد هزيمة 1967، حين ظهرت كتابات تعتبر الهزيمة “قدَرًا” وتطالب بالتكيف مع “الواقع الجديد”، أو بعد احتلال العراق عام 2003 حين ظهرت أصوات عربية تدعو للتعاون مع الاحتلال الأمريكي باعتباره أمرًا لا مفر منه. في كل هذه الحالات، لم تكن الخطورة في الهزيمة العسكرية فقط، بل في تحويل الهزيمة إلى ثقافة وفكر عام، يُزرع في الوعي الجمعي لإضعاف روح المقاومة لعقود طويلة.

إن ثقافة الهزيمة لا تفرض بالقوة العسكرية فقط، بل عبر الخطاب والإعلام والمثقفين الموجّهين الذين يروّجون لمنطق الاستسلام المغلف بلغة “الواقعية”. وما يجري في غزة اليوم يكشف بوضوح أن هذه الثقافة تُعاد صياغتها بوسائل حديثة لتبرير القبول بصفقات سياسية غير عادلة. مواجهة هذه الثقافة تتطلب وعيًا جماهيريًا ونقاشًا فكريًا صادقًا يُميّز بين “الواقعية السياسية” الحقيقية، و“الاستسلام المقنّع” الذي يسعى لفرض منطق الهزيمة على الشعوب.

إغلاق