الموجة الجديدة من الاعتراف بدولة فلسطين… الدوافع والدلالات

رام الله- الشاهد| سعيد زيداني.. في ردّها على “طوفان الأقصى” (في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، وفي إطار العملية العسكرية الأمّ، التي حملت اسم “السيوف الحديدية”، التي تناسلت منها عمليات فرعية كان جديدها أخيراً “عملية جدعون 2″، ارتكبت القوات الإسرائيلية الغازية (ولا تزال)، جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، إلى جانب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في كل من قطاع غزّة والضفة الغربية، وعلى مدار عامين، تخلّلتهما عمليات عسكرية طاولت كلّاً من لبنان وسورية والعراق واليمن وإيران. وعلى مستوى قطاع غزّة تحديداً، كانت نتائج تلك العمليات كارثية (أقلّ ما يقال)، فقد قُتل وجُرح وفُقد وسُجن ما يزيد عن ربع مليون من الغزّيين والغزّيات، وشُرّد ما يقارب المليونَين، ويعاني مئات الآلاف من سوء التغذية والأمراض النفسية الجسدية، ودمّرتْ ما لا يقل عن ثلاثة أرباع المنازل والمباني العامّة كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمعابد، ودُمّرت المزارع والمصانع وشبكات الطرق والكهرباء والمياه والصرف الصحّي. وعن التجويع والترويع والحرمان من العمل والتعليم فالحديث بلا حرج. وفي الضفة الغربية، دمّرت ثلاثة مخيّمات وشُرّد عشرات الآلاف من سكّانها، وقتلت قوات الاحتلال والمستوطنون المسلّحون، منذ “7 أكتوبر” ألف فلسطيني، وهناك أكثر من ألف حاجز وبوابة حديدية للفصل بين المدن، وبين كل مدينة والقرى المجاورة أو المحيطة، واعتقل ما يزيد عن عشرة آلاف فلسطيني، إضافة إلى حصار السلطة الفلسطينية مالياً وإدارياً، وتكثيف عمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي وهدم المنازل والحرمان من العمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
تعمل حكومة إسرائيل اليمينية المتطرّفة جادّة في سدّ الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية على أساس حدود 4 حزيران 1967
وإذا كانت الجرائم توصف بناء على نتائجها ونيّات الفاعلين والآمرين، فقد اتهمت جنوب أفريقيا (وغيرها لاحقاً) إسرائيل، منذ الشهور الأولى للحرب على قطاع غزّة بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، أمّ الجرائم كلّها. كما اتُّهم حكّام إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في كل من قطاع غزّة والضفة الغربية، علماً بأن تقارير المؤسّسات الحقوقية الأممية تؤكّد صدقية هذه الاتهامات. وإضافة إلى الجرائم المذكورة، تنذر ممارسات حكّام إسرائيل وتصريحاتهم بارتكاب جريمة التطهير العرقي في قطاع غزّة، وجريمة الضمّ في الضفة الغربية. وفي جميع الأحوال، لم يعد خافياً أن حكومة إسرائيل اليمينية المتطرّفة
في ضوء ما ورد أعلاه، يمكن إجمال الأسباب الرئيسة التي أدّت إلى الموجة الجديدة من الاعتراف بدولة فلسطين المستقلّة. فأولاً تأتي الجرائم التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية خلال العامَين الماضيين، وفي مقدمها جريمة الإبادة الجماعية. هزّت هذه الجرائم ضميري السامع والمشاهد في العالم الواسع، بسبب نتائجها المروّعة على الإنسان والمكان والبنيان، وكذلك بسبب الخرق الفاضح (والفظّ) لأحكام القانونَين الدوليّين الإنساني وحقوق الإنسان، وللقيم الإنسانية الأساسية. وثانياً، أثار استهداف قوات الاحتلال المدنيين الفلسطينيين والأعيان المدنية، وعلى نطاق غير مسبوق، غضب شعوب العالم الحرّ، ذلك الغضب الذي وجد تعبيراً واضحاً له في التظاهرات الشعبية الحاشدة في الدول الديمقراطية في قارات العالم المختلفة. ولم يعد بإمكان حكّام تلك الدول (الصديقة والحليفة تقليدياً لدولة الاحتلال مثل فرنسا وبريطانيا وكندا وأستراليا) تجاهل ذلك الغضب الشعبي العارم أو التغاضي عنه. وإذا كان الأمر كذلك، ليس من المستبعد أن تلحق كل من ألمانيا وإيطاليا واليابان بتلك الدول التي اعترفت أخيراً بدولة فلسطين.
هناك (ثالثاً) الانقسام داخل المجتمع في إسرائيل، بين المنادين باستمرار الحرب على غزّة والمنادين بوقفها، وما يقابله من انقسام مماثل بين أوساط يهود العالم، وكان ذلك عاملاً مساعداً في تبرئة المتظاهرين الساخطين من تهمة اللاسامية، وكذلك من تهمة التحريك من جماعات إسلامية مهاجرة تدعم حركة حماس وغيرها من حركات المقاومة الإسلامية. ورابعاً مصالح حيوية، للدول التي اعترفت بدولة فلسطين في هذه الموجة الجديدة، كما للدول التي اعترفت سابقاً، في المشرق العربي تريد حمايتها، مصالح تتطلّب اتخاذ مواقف متعارضة إلى حدّ كبير مع الموقف الأميركي، وكذلك مع عبث حكومة إسرائيل المتطرّفة بأمن واستقرار المنطقة بعامّة، ومع عدوانها الوحشي والمدمر على الشعب الفلسطيني بخاصة.
أمّا أهمية الاعتراف بدولة فلسطين المستقلّة على أساس حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، فتكمن في التأكيد على الالتزام بعمل ما يلزم، وعلى المستويات المختلفة، للإبقاء على باب حلّ الدولتَين والطريق إليه مفتوحين. وهذا يتطلّب الالتزام الجدّي بوقف حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، والتصدّي لمخطط تهجير سكّانه قسراً، والمساعدة على إعادة إعمار القطاع بعد إغاثة منكوبيه الكثيرين. كما ينبغي التصدّي لمخطط الضمّ في الضفة الغربية، سواء كان هذا الضمّ جزئياً أو غير ذلك، زاحفاً أو غير ذلك، وهذا يتطلّب لجم الاستيطان، ومساءلة عنف المستوطنين. تنبغي أيضاً حماية السلطة الفلسطينية، ودعمها مالياً وسياسياً، وتيسير عملية تحوّلها قانوناً دولة ديمقراطية مستقلّة، جاهزة لفرض سيادتها على أي جزء يُخلّص من براثن الاحتلال.
ويسأل سائل متشكّك من أهلها: ما القيمة المضافة لهذه الموجة وما سبقها وما قد يليها من الاعتراف بدولة فلسطين، إذا لم تكن مرهونة بوقف الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في غزّة والضفة الغربية؟ بكلمات أخرى، ما تلك القيمة التي تتعدّى البعد الإعلاني/ المعنوي؟ في الردّ على هذا التساؤل الجدّي، هناك ما ينبغي تأكيده، وفي مقدمته أن الموجة الجديدة من الاعتراف بدولة فلسطين تأتي على خلفية مجازر ارتكبتها (وما زالت) القوات الإسرائيلية. مجازر أثارت غضباً شعبياً ساطعاً في كثير من الدول الأوروبية الغربية وغيرها، ممّا اضطر الحكومات لاتخاذ مواقف ناقدة وغاضبة، على الأرجح ستتبعها إجراءات عملية رادعة لدولة الاحتلال في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأكاديمية/ العلمية والثقافية. كما يُؤخذ بالاعتبار أن الدافع الرئيس للدول التي اعترفت بدولة فلسطين أخيراً هو حماية حلّ الدولتَين من التداعي والتلاشي.
ولهذا السبب، تعمل في اتجاهين متوازيين. الأول ذو علاقة بدعم صمود الفلسطينيين والتعاطف مع عدالة قضيتهم، والثاني بعزل ومعاقبة إسرائيل وإحراج حليفتها وحاميتها الرئيسة، الإدارة الأميركية برئاسة ترامب. ويعتقد كاتب هذه السطور أن المواقف والإجراءات العملية التي ستتخذها الدول المذكورة، والمتلاقية مع مواقف دول أخرى كثيرة، في مقدمها الدول العربية والإسلامية، هي التي ستمنع تنفيذ مخطّطي التهجير في قطاع غزّة والضمّ في الضفة الغربية.
على خلفية المقتلة المروّعة في قطاع غزّة، من شأن الاعتراف بدولة فلسطين، خصوصاً بموجته الجديدة، حماية الحلم الوطني الفلسطيني من الاغتيال، وهذا شأن لا يجوز الاستهانة به أو التقليل من أهميته. هذا لا يعني بالطبع أن الطريق إلى الدولة الفلسطينية المستقلّة قد صار قصيراً أو معبّداً. هذا يعني تحديداً أن ذاك الطريق ليس مسدوداً، رغم المطبّات والتعرّجات التي تعوق وتطيل كثيراً زمن الوصول إلى الهدف. وفي جميع الأحوال، يتوجّب وقف الإبادة الجماعية وطرد شبح التهجير أولاً.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=94914