فساد في زمن الحرب.. جريمة أكبر من الاحتلال

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني اسماعيل الريماوي مقالاً حول فضائح الفساد الجديد في أورقة السلطة الفلسطينية والتي طالبت مؤخراً اثنين من المسؤولين أحدهما وزير والآخر رئيس هيئة المعابر، وفيما يلي نص المقال كاملاً.
بينما تحترق غزة تحت القصف، وتدفن أبناءها بيديها كل يوم، تنشغل سلطة أوسلو ومن معها بملفات الفساد والصفقات والمناصب، وكأنها ليست من هذا الوطن الذي يُذبح من الوريد إلى الوريد.
في الوقت الذي تنام فيه الأمهات في غزة على رائحة البارود، وتحتضن الأنقاض أطفالها، هناك في مكاتب مكيفة يكتب بعض “المسؤولين” فصول خيانتهم على ورق الدولة المسروقة، يتبادلون التوقيعات والمناصب والامتيازات، فيما تُقطع الكهرباء عن الجرحى، ويُدفن الشهداء في الظلام.
غزة التي لا تنام منذ ثلاث سنوات، تحرس كرامة الوطن وحدها، تمسح دموعها وتواصل القتال، بينما السلطة الغارقة في مستنقعها الفساد وتواصل الغياب، تبرر لنفسها كل سقوط، وتجمّل كل عار بشعار “الإصلاح” و”الشفافية”، وهما كلمتان ماتتا منذ زمن في قواميسها.
منذ أسابيع، يتردد اسم الوزير والمسؤول، وتُفتح ملفات رشاوى وسرقات وتجاوزات في مؤسسات يفترض أنها وُجدت لخدمة الناس، لا لنهبهم.
ملفات تتحدث عن مسؤولين وعن وزراء استغلوا المناصب كما يستغل الغريب ضعف المدينة لينهشها.
وفي المقابل، في غزة، طفل جائع يقف في طابور الخبز منذ الفجر، ورجل يدفن عائلته ويعود ليحرس موقعه على الجبهة، وامرأة تكتب وصيتها على ورقة إسعاف.
كيف يمكن أن تنزف غزة في كل لحظة، بينما ينزف الضمير في رام الله بلا قطرة خجل؟
كيف يمكن لمن يمثل “السلطة الوطنية” أن يكون أول من ينهب الوطن؟
أية سلطة هذه التي تعيش على أنقاض الجرح، وتقتات من رماد المدن المنكوبة؟
غزة لا تعرف الفساد، لأنها لا تملك إلا قلبها.
غزة لا تعرف الامتيازات، لأنها لا تملك إلا أبناءها الذين يحرسونها بأجسادهم.
بينما هناك من يتقن فن الاختلاس، تتقن غزة فن البقاء.
بينما هناك من يملأ حساباته في البنوك، تملأ غزة التاريخ بالمجد.
لقد تحوّل الفساد في السلطة إلى جريمة مضاعفة، فإن كنت متنفذا فسرق ما تستطيع وهرب، ليس لأنها سرقة أموال، بل لأنها سرقة معنى الوطن نفسه، سرقة دماء الذين يموتون في الميدان.
حين تُغتال الكرامة في المكاتب، يصبح كل شهيد في غزة يصرخ: لمن نموت؟ لمن نحيا؟
إن الفساد في زمن الحرب ليس مجرد خيانة، بل هو خنجر في ظهر الذين يقاتلون.
هو الوجه الآخر للاحتلال، لكنه يرتدي بدلة رسمية ويتحدث بلسان فلسطيني.
وفيما لا تزال أبواق السلطة تصب غضبها على المقاومة، وتتهمها بالمغامرة والفوضى، تتغاضى في الوقت ذاته عن الفساد المستشري في جسدها كالسّرطان، ينهش مؤسساتها، ويفتك بما تبقى من ضميرها الوطني.
تستنكر بندقية الشرف، لكنها لا تستنكر سرقة الخبز من أفواه الجياع.
تحارب من يدافع عن الأرض، وتغض الطرف عمّن يبيعها في صفقات مشبوهة.
غزة وحدها تصنع المعنى، والسلطة وحدها تقتله.
وبين الدم والمال، وبين الشهادة والصفقة، نعرف الآن من الذي ينتمي لفلسطين، ومن الذي باعها قطعة قطعة في صمت المكاتب.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=95041