قانون الدين العام المعدل.. ترحيل أزمة السلطة المالية للأجيال المقبلة

رام الله – الشاهد| كتب نبهان خريشة.. أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قرار بِقانون رقم 20 لسنة 2025، لتعديل قانون الدين العام رقم 24 لسنة 2005، وهو ما قد يبدو بنظره وبنظر مستشاريه محاولة لضبط سياسة الاقتراض الحكومي، لكن واقعه يُشي بأنّه يشكّل قنبلة مالية موقوتة تهدّد الاقتصاد الفلسطيني وتكبّل أجيالاً من المواطنين الفلسطينيين بعبء ديون لا قدرة لهم على سدادها.
وفق ما ورد في التعديلات، تم رفع سقف الدَّين العام من 40 % إلى 80 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتوسيع تعريف “الدّين العام” ليشمل جميع الالتزامات الحكومية المباشرة وغير المباشرة، الداخلية والخارجية على حدّ سواء..
منذ البداية، يحمل هذا القرار مخاطرة مزدوجة: الأولى تتعلق بكمّية الدَّين المحتملة، والثانية بنوعية الالتزامات التي ستُحمّلها الدولة – وبالتالي المواطن. رفع سقف الدَّين العام إلى 80 % من الناتج المحلي يعني أن الحكومة تغلق لنفسها الباب أمام التقيّد بضوابط موازنة الاعتدال المالي، وتحوّل ما كان يُعدّ سقفاً جمهورياً إلى حدّ قابل للتجاوز بسهولة.ويرى خبراء أن الدَّين العام الحالي قد يكون بالفعل في حدود نحو 86 % من الناتج المحلي، وربما يتجاوز 100 % عند احتساب أنواع الدَّيون غير المُرصّدة.
من جهة ثانية، توسّع تعريف الدَّين العام ليشمل التزامات “مباشرة وغير مباشرة”، أي أن المساعدات والقروض الضمنية والعقود التي قد تتحمّلها الحكومة في المستقبل – بل وحتى تلك التي تترتب على مؤسسات تُقرب منها الدولة – تصبح جزءاً من عبء الدَّين. بهذا التعديل، يتضح أن “شعباً” كاملاً يُحمّل ليس فقط الدَّين الرسمي المعروف، بل ديوناً ربما لم تُتحقق بعد، أو لم تُرصد بدقة في ميزانيات سابقة.
الأرقام الرسمية تفيد بأن الدين الخارجي – على سبيل المثال – للقطاعات الاقتصادية في فلسطين بلغ نحو 2.118 مليار دولار أمريكي نهاية الربع المقابل، وتمثّل الحكومة حوالي 64 % من هذا الدين. كذلك، بيانات أخرى تُشير إلى أن إجمالي القروض (حسماً غير مباشر) للأراضي الفلسطينية قد بلغت نحو 9.943 مليار دولار أمريكي في يناير 2025 . بهذا السياق، فإن ربط القرار برفع سقف الدَّين إلى 80 % من الناتج يجعل من الممكن بلوغ ديون تزيد على 50 مليار شيكل كما ذُكر، وهو رقمٌ ضخمٌ في نطاق الاقتصاد الفلسطيني المحدود، ويضع الرهان على قدرة غير واقعية على تسديده.
القانون يُصوَّر بأنه “حلّ” لأزمة الدَّين والمالية العامة، لكن في الحقيقة هو ترحيل للعبء إلى المستقبل وإلى أجيال مقبلة. فالسلطة – بحسب مراقبين – لا تطرح خطة واضحة لسداد هذا الدَّين، بل تفتح الباب لمزيد الاقتراض والمزيد من إصدار سندات خزانة، ودون ضمانات حقيقية بأن هكذا خطوة ستولّد مصادر دخل وطنية مستقرة أو تنعش الاقتصاد بما يكفي لسداد تلك الالتزامات.
ومن هنا تأتي المخاطر: أولاً، أن تكون أموال المودعين في البنوك عرضة للخطر إن أصبحت الدولة مقبلة على اصدار سندات بالشيكل أو العملات الأجنبية بمليارات إضافية، ما يعني تحميل القطاع المصرفي بشكل غير مباشر أعباء الدّين الحكومي. وثانياً، أن لا تتمكّن الحكومة من تنفيذ برنامج سداد منتظم، ما يؤدي إلى تراكم فوائد وعجز مما يدفع للدولة والمواطنين نحو مأزقٍ أكبر.
وبينما تمّ في التعديلات إنشاء ما عُرف باسم “حساب الوفاء” – وهو حساب خاص تُحتجز فيه المخصصات المالية لسداد الالتزامات المرتبطة بإصدارات السندات الحكومية – إلاّ أن الأمر أثار الأسئلة حول مصادر التمويل التي ستملأ ذلك الحساب. إذ في وقتٍ تعجز فيه الحكومة حتى عن دفع بدل المواصلات للمعلمين والأطباء، وتوقّفت مخصصات الشهداء والأسرى، فإن الإعلان عن “حساب الوفاء” يبدو واجهةً شكلية لا حلّاً حقيقياً.
ومن اللافت أيضاً أن التوقيت يأتي عقب أزمات مالية متراكمة: حكومة محمد مصطفى تسببت للوطن وللمواطن بثلاث أزمات متزامنة: معالجة الدَّيون بمزيد من الدَّيون، تعديل المناهج التعليمية الوطنية بناءً على مساعدات خارجية، وإيقاف مخصصات الشهداء والأسرى لحثّ إسرائيل على تسليم أموال المقاصة المحتجزة. هذه السياسات، بدلاً من أن تكون بمنطلق الاستحقاق الوطني، تبدو بمثابة مناورة لشراء الوقت وتمرير عبء مالي كبير نحو المستقبل.
اقتصادياً، سجلت السلطة الفلسطينية توقعات بأن العجز في الموازنة سيبلغ نحو 4.9 % من الناتج المحلي لعام 2025، مع ارتفاع الدين العام إلى نحو 69 % من الناتج المحلي – قبل احتساب التعديلات الجديدة.، ما يعني أن القرار الجديد يضع سقفاً أعلى بكثير للمخاطرة، في وقتٍ لا تزال فيه مصادر الإيرادات الوطنية متواضعة، والنمو الاقتصادي مُقيَّداً بسبب الاحتلال والمحددات المفروضة، حيث أشار تقرير الأمم المتحدة إلى أن اقتصاد غزة فقط تقلّص بنسبة 86 % عند البعض من الحرب والحصار.
إن تحميل الشعب الفلسطيني بهذه الديون، أو بترحيلها نحو أجيال قادمة، يعني أن أي تحسّن طفيف في الإيرادات أو إصلاح مالي يصبح مفتوحاً للمراوغة ويُستخدم ذريعة لمزيد الاقتراض. وإذ يستخدم القرارأدوات قانونية تبدو فنية – مثل “حساب الوفاء” أو “سقف الدَّين” أو “تعريفاته الموسّعة” – فإنه في الجوهر يمثل تغييراً جوهرياً في العلاقة بين الحكومة والمواطن: المواطن لم يُسأل في حقيقة الأمر، لكن يُحمّل العواقب.
الأسئلة التي تطرح نفسها الآن هي: من سيُسدد هذا الدَّين؟ ما هي مصادر التمويل؟ وهل هناك برنامج إصلاح اقتصادي يسبق ويحدد كيف سيتم القضاء على العجز؟ إن لم يكن هناك إجابات واضحة، فإن ما أقرّه القرار ليس إصلاحاً بل استدانة مقنّعة تُخفي وراءها تفريغاً للمسؤولية وتحويلاً لمصير البلاد إلى مراهنة مالية.
إن القرار بقانون رقم 20 لسنة 2025 يشكّل نقطة تحول تبدو في ظاهرها إدارياً – فقط تعديل قانوني – لكنها في واقعها فتحٌ واسعٌ لصندوق ديون متراكمة، يُوقّع على مستقبل الأجيال الفلسطينية. إن ما تحتاجه السلطة ليس سقفاً أعلى للدين، بل سقفاً أعلى للإصلاح، شفافية أكبر، واستراتيجيات وطنية حقيقية لنمو الاقتصاد وزيادة الإيرادات، وليس مزيداً من القروض التي تُكرّس التبعية وتضع المواطنين رهينةً للعبور المالي حتى يحين موعد السداد.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=96017





