عهد التميمي ابنة الأرض.. درس في الوطنية الحقيقية ورمزٌ لا يُشترى

عهد التميمي ابنة الأرض.. درس في الوطنية الحقيقية ورمزٌ لا يُشترى

رام الله – الشاهد| كتب خالد سعيد نزال:

أولاً: المسيرة النضالية.. من قرية النبي صالح إلى العالمية

لم تُصنع عهد التميمي في مكاتب الدبلوماسية أو قاعات المؤتمرات الفاخرة، ولم تُخرجها “الغرف المغلقة” كمشروع سياسي. بل صنعتها ظروف الاحتلال القاسية في قرية النبي صالح الصغيرة، حيث تعلمت معنى المقاومة من خلال التجربة اليومية ثلاثة إصابات بالرصاص، كسر في اليد، اعتقالات متكررة بدأت عندما لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها، ومشاهد العنف اليومي التي تشهدها في بيتها وحارات قريتها.

هذه هي المدرسة الحقيقية التي خرجت منها عهد: مدرسة الألم والصمود، حيث تعلم الطفل الفلسطيني قبل أن يتعلم القراءة والكتابة كيف يدافع عن كرامته وأرضه. الاحتلال الإسرائيلي الذي يفتخر بأنه “الجيش الأخلاقي الأقوى في العالم” هو الذي صنع من هذه الفتاة الصغيرة رمزًا للمقاومة العالمية. حتى أن وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش اعترف بقوتها عندما قال: “كان الأجدر إصابتها في ركبتها لتصبح قيد الإقامة الجبرية في بيتها”، لأنه يعرف أن جسدها المكسور لن يكسر إرادتها.

وعهد التميمي لم تكن يومًا مجرد فتاة فلسطينية عادية. نشأت في عائلة تشربت المقاومة كقيمة أخلاقية، فوالدها كان أسيرًا سابقًا، ووالدتها ناريمان التميمي أصبحت رمزًا للصمود، وابن عمها محمد التميمي استشهد برصاص الاحتلال، بينما شقيقها محمد تعرض للاعتقال مرارًا.

لكن الحدث الذي أطلق اسم عهد إلى العالمية كان في اغسطس 2012، عندما صورت كاميرات المراقبة لحظة مواجهتها المباشرة مع جنود الاحتلال في قريتها. في مشهد أصبح أيقونيًا، وقفت الفتاة البالغة من العمر 11 عامًا، بشموخ وشجاعة، وأمسكت برقبة جندي إسرائيلي مسلح، وصفعته بعد أن دخل الجنود منزل عائلتها واعتدى على شقيقها محمد. لم تكن هذه الصفعات مجرد رد فعل عفوي، بل كانت صرخة رفض في وجه احتلال يحطم البيوت ويذل الإنسان.

الاعتقال الذي تلا ذلك لم يكسرها، بل جعلها أكثر قوة. خلال محاكمتها العلنية التي استمرت أشهرًا، تحولت إلى منبر لفضح الاحتلال. تحدثت بجرأة عن وحشية الجنود، وعن حق الفلسطينيين في المقاومة، وعن معاناة أهلها. حتى في قاعة المحكمة، وقفت بشموخ، لتقول للعالم: “لسنا إرهابيين، نحن ضحايا احتلال”.

عهد التميمي: شجاعة لا تُدان

في زمنٍ تراجعت فيه خطابات المقاومة أمام تنازلات السياسة، وسادت فيه لغة التطبيع والانبطاح، تبرز عهد التميمي كشعلةٍ لا تنطفئ، لا لأنها أطلقت رصاصة أو خطّت بيانًا ثوريًّا، بل لأنها وقفت طفلةً في الرابعة عشرة حينها أمام جنود مدججين بالسلاح، رافضةً أن يُفرض عليها الخوف، ولم تكن مجرد ردّ فعل عفوي، بل تجسيدٌ لرفض جيل كامل أن يورّث الذلّ.

فهي صوتٍ لا ينحني أمام الاحتلال ولا أمام تنازلات البعض باسم “الواقعية السياسية”.

يُتهم المعارضون في عالمنا العربي والإسلامي دائمًا بأنهم خونة، متآمرون، أو عملاء، كلما تجرّأوا على قول الحقيقة أو معارضة الخط السائد. هذه الآلة الاتهامية ليست جديدة؛ فقد سبق أن وجّهت إلى كل من رفض التنازل عن القدس، أو انتقد التطبيع، أو دعا إلى المقاومة الشعبية السلمية. واليوم، بعد أن عادت عهد من سجنها، أكثر وضوحًا وإصرارًا، وتجرّأت في مؤتمرها الصحفي على التذكير بأن المقاومة حقّ مشروع، و أن التطبيع خيانة للدم الفلسطيني، شنّت عليها حملةٌ منظّمة من قبل من يخشون أن تستيقظ الجماهير من سُباتها، وتُدرك أن القيادة التي تفاوض باسمها قد باعت الحلم مقابل مقعدٍ على طاولة لا تقرّر فيها شيئًا.

عهد التميمي لم تطلب يومًا أن تكون أيقونة، لكن التاريخ اختارها. ومن حقّها أن تُدافع عن نفسها، وأن تُعبّر عن رؤيتها لتحرير فلسطين، دون أن يُطلب منها أن تصمت لأنها خرجت عن “الإجماع” المفروض من الاعلى . المقاومة ليست حكراً على فصيلٍ أو جهةٍ، بل هي حقّ كل فلسطينيّ، خصوصًا من عايش الاحتلال وجرب مرارته. والدفاع عن عهد ليس دفاعاً عن شخص، بل عن الحقّ في أن يكون لنا رموزٌ لا ترتدي البدلة الرسمية، ولا توقّع اتفاقاتٍ سرّية، بل تقف بوجه الباطل — جندياً كان أم سياسياً.

إن الاتهام لها بأنها “تخدم أجندات خارجية” يسقط أمام بديهة واحدة: ماذا قدّمت تلك “الأجندات” لها سوى السجن والتشهير؟ لا شيء سوى بعض الوجاهة الزائفة أمام من يطلبون منها أن تُدير وجهها عن جرائم الاحتلال. عهد لم تُبع ولم تُشترَ، بل ظلّت صادقةً لضميرها ولأرضها.

بعد الإفراج عنها في صفقة الأسرى الأخيرة ، كان خطاب عهد مختلفًا. لم تكن كلمات مُعدة مسبقًا ، بل كانت صرخة جيل كامل من الفلسطينيين الذين يرون أن القيادة السياسية فقدت شرعيتها عندما قبضت على التطبيع والتنسيق الأمني. أعلنت بوضوح: “من يمثلني ويمتلك شرعيتي هو المقاومة والطفل المجوع الذي يدافع ويرفض تطويعه وجره الى التطبيع أو الانبطاح”.

هذه الكلمات لم تكن مجرد بيان شخصي، بل كانت نقدًا حادًا للواقع الفلسطيني الرسمي. التي طالما ادعت تمثيل الشعب، أصبحت في عيون جيل عهد مجرد إدارة مدنية للاحتلال، بينما المقاومة الحقيقية موجودة في أزقة غزة المحاصرة، وفي قرى الضفة المهددة بالتهجير، وفي قلوب الأطفال الذين يرفضون أن يركعوا.

المفارقة الحقيقية ليست في أفعال عهد التميمي، بل في الأسباب التي جعلتها “خارج الصف الوطني” في نظر البعض. فعهد لم تخطئ عندما وقفت أمام الجنود، ولم تخطئ عندما دافعت عن أهلها، ولم تخطئ عندما تحدثت عن الاحتلال بكل وضوح.

الخطأ الحقيقي هو أنها رمزٌ حي للمقاومة الشعبية السلمية في زمنٍ اختار فيه البعض طريق المفاوضات العبثية والتنسيق الأمني. عندما تصبح المقاومة حقًا مشروعًا في الضمير الشعبي، بينما تتحول الخطابات الرسمية إلى مساومات وتبرير للتطبيع، يصبح من يُجسد المقاومة كعهد “مشكلة” يجب إسكاتها.

الاتهامات الجاهزة التي رفعت ضدها بعد مؤتمرها الصحفي الأخير ليست جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني:

– تهمة “الأجندات الخارجية” : وهي أقدم حيلة في كتاب الاستبداد السياسي. كل من يجرؤ على انتقاد التنازلات أو يرفض السكوت عن التطبيع، يُتهم بأنه “خائن”. لكن السؤال البسيط: ما هي هذه “الأجندات” التي تريد من فتاة فلسطينية أن تضرب جنديًا محتلًا في قريتها؟ هل هناك أجندة أقوى من أجندة الأرض والكرامة؟.

– تهمة “الخروج عن الصف الوطني” : هنا تكمن المأساة الحقيقية. فـ”الصف الوطني” لم يعد يعني المقاومة والتحرير، بل أصبح يعني المواءمة مع الواقع القائم والابتعاد عن التصعيد. من يجرؤ على كسر هذا التماهي مع الهزيمة، يصبح “خارج الصف”. وهذا تحويل خطير لمفهوم الوطنية نفسه.

التهم التي تُرفع ضد عهد اليوم هي نفس التهم التي رُفعت ضد كل من وقف في وجه الاحتلال أو في وجه التنازلات: أحمد ياسين، أبو علي مصطفى، وقبلهم كل الثوار الذين وُصفوا بـ”المارقين” لأنهم لم يقبلوا بالهزيمة.

عهد التميمي لا تحتاج دفاعًا، فشجاعتها وثقتها وصمودها هو دفاعها الأقوى. لكن واجبنا كفلسطينيين أن نسأل: لماذا أصبح من يدافع عن كرامتنا ” ارهابي “؟ ولماذا أصبح الصمت عن الاحتلال “وطنيًا”، بينما المقاومة “خروجًا عن الصف”؟.

الجواب واضحا أن اصحاب نظرية الواقعية السياسية وسحب الذرائع تخشى أن تستيقظ الجماهير على الحقيقة الكاملة. فعهد التميمي، ببساطتها، ذكّرت الجميع بأن الاحتلال لا يُفاوض، بل يُقاوم. وهذا درسٌ لا يمكن شراؤه بمال أو إقصاء باتهامات. التاريخ سيُنصفها، كما أقرّ ببطولات المُهمشين قبلها، لأن الوطنية الحقيقية لا تُقاس بمدى التماهي مع السلطة، بل بمدى التماهي مع الأرض والإنسان.

الخلاصة: عهد ليست استثناءً.. إنها القاعدة في زمن “البكائين”

عهد التميمي ليست استثناءً في التاريخ الفلسطيني، بل هي القاعدة التي يجب أن يُبنى عليها مستقبل فلسطين. التاريخ لم يُصنع بالبكاء والخطابات الرنانة في قاعات الأمم المتحدة، بل صُنع بالدم والإرادة في ميادين المواجهة. من كان يصدق أن فتاة في الحادية عشرة من عمرها ستكون أقوى من كل المسؤولين الكبار عندما وقفت تدافع عن أخيها محمد الذي تعرض للضرب والاعتقال؟.

المقاومة الحقيقية لا تحتاج إلى مؤسسات رسمية لتمنحها الشرعية، لأن شرعيتها تأتي من الأرض والإنسان والألم المشترك. وعهد التميمي، التي صنعتها ظروف الاحتلال وليس الغرف المغلقة، هي اليوم صوت الضمير الفلسطيني الذي رفض أن يموت. فهي لم تُنتج في المختبرات السياسية، بل في مختبر الحياة الفلسطينية الواقعية، حيث يصبح الطفل مقاومًا قبل أن يصبح طفلًا.

التحدي الحقيقي اليوم ليس في مواجهة الاحتلال فحسب، بل في مواجهة أولئك الذين حولوا القضية إلى مهنة ومصدر دخل. وعهد التميمي، بصدقها وشجاعتها، ذكرتنا جميعًا بأن المقاومة الحقيقية لا تُعلن في المؤتمرات الصحفية المُعدة سلفًا، بل تُعلن في كل صرخة ألم، وفي كل قطرة دم، وفي كل موقف يرفض الانبطاح والتطبيع.

التاريخ سيذكر عهد التميمي ليس كرمز للعنف، بل كرمز للكرامة الفلسطينية عندما قررت أن تقول للعالم: “نحن لسنا ضحايا نبكي، نحن مقاومون نعيش”. وهذه هي الشرعية الحقيقية التي لا يستطيع أحد أن ينزعها.

إغلاق