حجب الجزيرة.. القضاء الفلسطيني بين مطرقة السلطة وأمواج الدستور

حجب الجزيرة.. القضاء الفلسطيني بين مطرقة السلطة وأمواج الدستور

رام الله – الشاهد| كتب د. عصام عابدين – خبير في الشؤون القانونية والحقوقية

جاء كتاب النائب العام الفلسطيني بشأن حجب مواقع شبكة الجزيرة الإعلامية في فلسطين، الذي يستند إلى ما وصفه بأنه “قرار صادر عن محكمة صلح رام الله”، ليُعيد طرح تساؤلات دستورية عميقة حول مدى التزام السلطة الفلسطينية بالقانون الأساسي (الدستور) وضمانات المحاكمة العادلة، فضلاً عن احترام الاتفاقيات والمعايير الدولية الخاصة بحرية التعبير وعلى رأسها الحريات الإعلامية.

هذه الخطوة جاءت في أعقاب الجدل الكبير الذي أثاره قرار اللجنة الوزارية الثلاثية، غير الدستوري، بوقف عمل الجزيرة، وهو ما يعكس تدهوراً خطيراً في حالة الحقوق والحريات العامة ككل في فلسطين.

فارق جوهري بين الحكم القضائي والقرار القضائي

وفقاً للمادة (27) الفقرة (3) من القانون الأساسي الفلسطيني، فإن أيّ قيد يُفرّض على وسائل الإعلام يستوجب “حكماً قضائياً فاصلاً في الدعوى” وليس مُجرّد “قرار” يصدر تدقيقاً عن محكمة صلح يخلُّ بجوهر العدالة الدستورية ويضع مبدأ سيادة القانون في مهب الريح.

والحكم القضائي، الفاصل في الدعوى، يجب أن يصدر عن سلطة قضائية مُستقلة ونزيهة، وأن تُكفل فيه كامل ضمانات المحاكمة العادلة، المنصوص عليها في المادة (14) من القانون الأساسي التي تقابل المادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه فلسطين، كما المادة (19) من قانوننا الأساسي بشأن حرية التعبير التي تقابل المادة (19) من العهد الدولي المذكور. إنها أمواجٌ دستورية عالية لا يَصمِد أمامها إلاّ حُكم عادل.

قرارات متكررة واستمرار ذات النهج

هذه ليست المرة الأولى التي يُصدر فيها القضاء الفلسطيني قرارات بحجب مواقع إلكترونية بناءً على طلب من النائب العام. بتاريخ 2019/10/17 أصدرت محكمة صلح رام الله قراراً بحجب (59) موقعاً إلكترونياً “دفعة واحدة” بطلب من النائب العام بذريعة تهديد الأمن القومي والسلم الأهلي.

وبتاريخ 2017/6/12 صدر قرار مماثل عن محكمة صلح رام الله بحجب (29) موقعاً إلكترونياً “دفعة واحدة” بذات النهج. هذه القرارات المتتالية، في غياب الأحكام القضائية الفاصلة، وضمانات المحاكمة العادلة، تعكس نهجاً خطيراً يتحدى الدستور الفلسطيني باستهداف الحقوق والحريات المكفولة دستورياً.

انتقادات دولية ومخاوف تتصاعد

اللجنة المَعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة لم تكن بعيدة عن هذه الصورة القاتمة للحقوق والحريات في فلسطين، فقد أكدت في تقريرها الصادر في شهر آب 2023 “حرفياً” على إنعدام الاستقلالية والحياد في النيابة العامة والقضاء الفلسطيني وانعدام الشفافية في تعيين المدعين العامين والقضاة، وتفشي الفساد في المؤسسات الفلسطينية.

وانتقدت استخدام مصطلحات فضفاضة كـ “إثارة النعرات الطائفية” و”إهانة سلطة عليا” وغيرها ذرائع لتقييد حرية التعبير وملاحقة الصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان. وكذلك فعل المقرر الخاص للأمم المتحدة، ديفيد كاي، في شهر آب عام 2017 عندما أرسل مذكرة تفصيلية للحكومة الفلسطينية بشأن قرار بقانون الجرائم الإلكترونية وانتهاكات حرية الرأي والإعلام.

استقلال القضاء أو فقدان الشرعية

إنَّ القضاء يستمد شرعيته من التزامه الراسخ بمبدأ سيادة القانون وحمايته للحقوق والحريات الدستورية. المادة السادسة من القانون الأساسي الفلسطيني تؤكد أن “مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في فلسطين” واستباحة هذه القاعدة الدستورية الآمرة يُحوّل القضاء والنيابة العامة من حُماةٍ للعدالة إلى أذرع لتسويغ القمع وتبرير الانتهاكات وإهدار الكرامة، مما يُفقدهما شرعيتهما، ويُرسّخ ويُعمّق بيئة الاضطهاد وتكميم الأفواه.

القرارات القضائية التي تتحدى الدستور الفلسطيني، وتتنكر لضمانات المحاكمة العادلة، لا تُهدد فقط حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية، بل تَهدم أُسس الحكم الصالح، وتفتح الباب واسعاً أمام مرحلة مُظلمة من الانتهاكات “الممنهجة” والتعدي السافر على حقوق الإنسان وكرامته، عنوانها الانحطاط.

الوقوف على مفترق طرق

الدفاع عن حرية التعبير والإعلام هو جوهر صون كرامة الإنسان وحقوقه. واستمرار انتهاك هذه الحقوق يُقوّض أسس الحكم الصالح القائم على قوة دستورنا الفلسطيني وسيادة القانون.

المجتمع المدني، والمؤسسات الحقوقية، والقوى الحيّة، مُطالبة بصحوة جادة لمواجهة هذا التدهور الشرس، ومحاولات فرض “انتقال السلطة” في سياق غير دستوري تُحكمه قبضة الخوف وتكميم الأفواه.

علينا جميعاً أن نعي أن شمس الحرية والعدالة لا يُمكن أن تُشرق في وطن يُدفع نحو العتمة، وأن كرامة الإنسان تبقى عصية على الانكسار، مهما تعاظمت أمواج القمع والانتهاكات، لأن إرادة الشعوب الحيّة ليست مجرد كلمات، بل هي الحقيقة التي تَكتب المستقبل مهما كانت عتمة الحاضر.

إن الدفاع عن الحقوق والحريات والكرامة ليس معركة نخوضها للحاضر فقط، بل هو التزام أخلاقي وقيمي مُقدس نُقدمه للأجيال القادمة، كي يرثوا وطناً لا تُحجب فيه الحقيقة، ولا تغيب فيه شمس الحرية، ولا تُكسر فيه أمواج العدل.

مسؤوليتنا التاريخية اليوم أن نكون صوت الحق الهادر في وجه الظلم والطغيان، لأن الصمت ليس حياداً، بل هو تواطؤ في القمع، وهو العدو الأكبر للكرامة والعدالة.

إغلاق