قانوني: قطع عباس رواتب أهالي الشهداء والأسرى انقلاب دستوري
رام الله – الشاهد| وصف الخبير القانوني د. عصام عابدين قرار رئيس السلطة محمود عباس بتحويل رواتب أهالي الشهداء والأسرى إلى مؤسسة تمكين بأنه انقلاب دستوري كامل يستهدف للقيم الوطنية ومجموعة جرائم دستورية تقوض حق تقرير المصير.
وشدد عابدين في دراسة مطولة أعدها حول القرار على أن قرار عباس باطل ومنعدم قانونياً، موضحاً أن ما يجري هو إعادة هندسة السلطة التنفيذية خارج إطار القانون.
وقال إن ما يحدث ليس مجرد خلل قانوني، بل محاولة ممنهجة لإعادة صياغة مفهوم الشهادة، وفق معايير تصب في خدمة منظومة الحُكم.
وحذر من أن القرار يعني تحويل الحقوق الدستورية لامتيازات مشروطة بالولاء السياسي، وهي ليست مُجرّد مُفارقة تشريعية، بل تفخيخ خطير للوجدان الوطني، وإعادة تشكيل القيم الوطنية بما يَخدم البقاء في الحُكم، وليس ما ينسجم مع مقتضيات العدالة والإنصاف.
وأشار إلى أن ملف هذه الجرائم الدستورية سيظل مفتوحاً أمام لحظة العدالة الانتقالية الشاملة القادمة، التي ستُعيد الروح إلى النظام السياسي الفلسطيني، وتعيد الحقوق إلى أصحابها.
وفيما يلي نص الدراسة القانونية كما نشرها د. عصام عابدين:
المرسوم الرئاسي بشأن الأسرى والشهداء والجرحى جرائم دستورية تقوض حق تقرير المصير
إعداد: المحامي الدكتور عصام عابدين
المستشار القانوني السابق لرئاسة المجلس التشريعي الفلسطيني
مؤسسة مجدلاني: تشريع خاص لخدمة الحلقة الضيقة
واصل الرئيس محمود عباس، البالغ من العمر 89 عاماً، والذي سيُكمل عامه التسعين في 15 نوفمبر 2025، إصدار القرارات بقوانين بوتيرة مُتسارعة، رغم تجاوزه بعشرين عاماً للولاية الرئاسية المحددة في القانون الأساسي المعدل بأربع سنوات فقط.
حيث أصدر القرار بقانون رقم (1) لسنة 2019 بشأن المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي، ونُشِر هذا القرار بقانون في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) في العدد رقم (151) بتاريخ 27/1/2019. وبما أن هذا القرار بقانون صدر عن رئيس منتهية ولايته، فهو باطلٌ ومنعدمٌ من الناحية الدستورية منذ لحظة توقيعه (وُلِد ميتاً)، ولا يترتب عليه أي أثر قانوني.
إعادة هندسة السلطة التنفيذية خارج الدستور
نصت المادة (2) من هذا القرار بقانون، الواردة تحت عنوان الشخصية الاعتبارية للمؤسسة، على أن “تنشأ بموجب أحكام هذا القرار بقانون مؤسسة تُسمى “المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي”، تتمتع بالشخصية الاعتبارية، والاستقلال المالي والإداري، والأهلية القانونية الكاملة لمباشرة جميع الأعمال والتصرفات القانونية التي تكفل تحقيق أهدافها”.
لا يقتصر الانعدام الدستوري على انتهاء الولاية الدستورية للرئيس منذ سنوات طويلة، بل يتعداه بالاعتداء المباشر على الصلاحيات الدستورية الحصرية لمجلس الوزراء (الحكومة) وذلك لأن المادة (69) فقرة (9) من القانون الأساسي المعدل أكدت بوضوح على أن إنشاء أو إلغاء الهيئات والمؤسسات والسلطات أو ما في حُكمها من وحدات الجهاز الإداري التي يشملها الجهاز التنفيذي هو اختصاص حصري لمجلس الوزراء، وليس للرئيس. وأنَّ تعيين رؤساء تلك الهيئات والمؤسسات من اختصاص مجلس الوزراء. ومن الواضح أن الرئيس المنتهية ولايته لا يُفرّق بين إنشاء الهيئات وتعيين رؤسائها، وهو اختصاص أصيل لمجلس الوزراء وفقاً لأحكام القانون الأساسي، وبين تنظيمها بقانون، وهما مسألتان دستوريتان مُنفصلتان لا يَجوز الخلط بينهما.
وحيث أن الرئيس المنتهية ولايته قام مُنفرداً بإنشاء المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي، مُتجاوزاً الصلاحيات الدستورية للحكومة، فإنَّ هذا القرار بقانون يُشكل اعتداءً مؤكداً على اختصاصات مجلس الوزراء، وانتهاكاً صارخاً لمبدأ سيادة القانون كأساس للحكم في فلسطين بموجب المادة (6) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل، وإخلالاً بالقسَم الدستوري الذي يُلزمه باحترام الدستور والقانون (المادة 35)، ويُرتّب وقوع جرائم دستورية واضحة في أحكام المادة (32) ولا تحتمل التأويل.
تفكيك صلاحيات الحكومة لصالح مؤسسة مجدلاني
نصت المادة (4) من هذا القرار بالقانون، الواردة تحت عنوان الفئات المستهدفة، على ما يلي: “1. تستهدف المؤسسة في برامجها وتدخلاتها الفئات التالية: أ. الأسر الفقيرة ب. الشباب الخريجين العاطلين عن العمل ج. النساء المنتجات والفقيرات والمهمشات د. الأسر التي ترأسها نساء هـ. العاملين والعاملات في المستوطنات و. المزارعين والصيادين الفقراء ز. الأشخاص ذوي الإعاقة ح. الرياديين والمدعين وأصحاب التميّز المهني 2. إضافة إلى الفئات الواردة في الفقرة (1) من هذه المادة، يجوز لمجلس الوزراء إضافة أي فئات أخرى يرى وجوب تمكينها بناءً على اقتراح من المجلس [مجلس أمناء المؤسسة] 3. تحدد ضوابط وآليات استهداف الفئات المنصوص عليها في الفقرة (1) من هذه المادة، بموجب نظام يصدر عن مجلس الوزراء”.
نهج الفوضى التشريعية، يزداد اتساعاً مع كل تشريع يُصدره الرئيس المنتهية ولايته مع حلقته الضَيّقة، إذ بالرغم من أن هذا القرار بقانون رقم (1) لسنة 2019 ، المنعدم دستورياً، يُجيز لمجلس الوزراء في المادة (4) منه “إضافة أي فئة أخرى” لأحكامه، وتحديد ضوابط وآليات استهداف هذه الفئات الإضافية، فإن القرار بقانون الأخير الذي صدر في هذه السلسلة المنعدمة دستورياً، وتحديداً بعد تعيين أحمد مجدلاني (70 عاماً) رئيساً لمجلس أمناء هذه المؤسسة، وهو القرار بقانون رقم (4) لسنة 2025 قد جَرّد الحكومة من كامل الصلاحيات، التي نصت عليها تلك القرارات بقوانين، وأحالها للرئيس عبر مؤسسة مجدلاني.
إنها ليست مُجرد إعادة هندسة للسلطة التنفيذية، بل خطة مُتكاملة لإحكام السيطرة على الموارد المالية وإعادة توزيع النفوذ داخل السلطة، بعيداً عن أي مساءلة أو رقابة. يتم تمريرها عبر مؤسسة شكلية، تُستخدم كغطاء لتحويل الصلاحيات من الحكومة إلى دائرة ضيقة من المتنفذين، في مشهد إنتاج المركزية المطلقة تحت غطاء “الإصلاح الإداري والتمكين الاقتصادي”.
وهذا ليس معزولاً عمّا جرى تنفيذه في القطاع الأمني الفلسطيني، حيث صدرت قرارات بقوانين في الأعوام 2024 و2025، تضمنت تعديلات جذرية على قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية 2005، منح بموجبها الرئيس المنتهية ولايته، نفسه، صلاحيات شاملة ومطلقة عليها، في تجاوز مباشر لاختصاصات الحكومة، وخرق صارخ للقانون الأساسي المعدل (الدستور).
لم يَعُد النفوذ مُقسّماً بين مؤسسات الدولة، بل جرى تركيزه في يد واحدة، ضمن مشروع مدروس يُعيد رسم خريطة السلطة، عبر قرارات بقوانين مُنعدمة، وتُستخدم لفرض واقع جديد، يجعل السلطة التنفيذية هيكل فارغ، بلا أي صلاحيات فعلية.
أدرك الرئيس عباس، المنتهية ولايته الدستورية، منذ سنوات طويلة، أن التعديلات الجوهرية التي أُدخلت على القانون الأساسي الفلسطيني لسنة 2002 (تعديلات 2003) سلبته أي فرصة لاحتكار السلطة التنفيذية. جاءت تلك التعديلات، التي صُممت له شخصياً عندما كان رئيساً للوزراء في مواجهة الرئيس الراحل ياسر عرفات، لتمنح رئيس الحكومة ومجلس الوزراء صلاحيات تنفيذية “هائلة”، في مقابل تقليص دور الرئيس إلى صلاحيات رمزية ومحددة بدقة؛ كصلاحيات ملك بريطانيا تشارلز الثالث.
لكن عندما تولى عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، وجد نفسه مُكبّلاً بتلك التعديلات، فسعى جاهدًا لإعادة تركيز السلطة بين يديه عبر محاولة تمرير “مشروع قانون معدِّل للقانون الأساسي المعدَّل لسنة 2003” الذي طُرح تحت قبة البرلمان في 8/1/2006 قُبيل انتهاء ولاية المجلس التشريعي الفلسطيني الأول. غير أن تلك المحاولة فشلت فشلًا ذريعاً، بسبب القواعد الدستورية الصارمة التي تتطلب أغلبية الثلثين لإجراء أي تعديل على القانون الأساسي بموجب المادة (120) من الدستور.
القضاء على مبدأ فصل السلطات: الحكومة مجرد إدارة تنفيذية
شكَّل الانقسام السياسي فرصة ذهبية لم يكن ليحلم بها، فعمل على إفشال كل محاولات استعادة عمل المجلس التشريعي الفلسطيني (السلطة التشريعية المنتخبة)، وأحكم قبضته على النظام السياسي بأكمله بوسائل غير دستورية. لم يكن كافياً أن يُعطِّل المجلس التشريعي، فذهب إلى أبعد من ذلك: قام بتشكيل المحكمة الدستورية العليا مُنفرداً، في ظل الانقسام، بعد تمَّ العبث بقانونها الصادر عن “التشريعي” عام 2006، الذي كان ينص على وجوب مُصادقة المجلس التشريعي على قُضَاتها.
وظلَّ المجلس التشريعي مُجمّداً قسرياً حتى جاءت الضربة القاضية يوم 12/12/2018، عندما أصدرت المحكمة الدستورية “التي شكَّلها الرئيس مُنفرداً” قراراً بحل السلطة التشريعية نفسها، في خرق سافر لأحكام القانون الأساسي المعدل الذي يحظر حل المجلس التشريعي بشكل مُطلق حتى خلال فترة إعلان حالة الطوارئ بموجب أحكام المادة (113) من الدستور الفلسطيني.
ومنذ تلك اللحظة، تحوَّل رؤساء الوزراء إلى موظفين تابعين، يُعيِّنهم الرئيس المنتهية ولايته بقرار مُنفرد، ويُقيلهم متى شاء، دون أي اعتبار للقانون الأساسي المعدل (الدستور) أو مبادئ الحَوكمة. بل إنهم، عملياً، لا يتجاوزون دور “الإدارة التنفيذية”، حيث يُعدّون الموازنات العامة، ويُقرّونها، وينفذونها، وفق توجيهات الرئيس المنتهية ولايته وأعوانه، دون أي رقابة أو مساءلة تشريعية.
لم تعد الحكومة سلطة تنفيذية مستقلة، بل مُجرّد إدارة تُنفّذ سياسات الرئيس في كل شيء، حتى في الموازنة العامة، التي تحولت من أداة اقتصادية لتنظيم المال العام، إلى وسيلة لضمان الولاء الكامل، وإعادة توزيع النفوذ والثروة، وتكريس الحكم الفردي.
وهكذا، دشَّن عباس عهد “القرارات بقوانين”، منذ أن أصدر أولها، القرار بقانون رقم (1) لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة، ومنذ ذلك الحين، أصبحت هذه الأداة الوسيلة الوحيدة لصناعة التشريعات، رغم أن الدستور لم يمنح الرئيس سلطة التشريع أصلاً، إلا في حالات الضرورة القصوى التي لا تحتمل التأخير وفي غير أدوار انعقاد “التشريعي” الذي جرى تغييبه بشكل قسري.
ما حدث لم يكن مُجرّد تجاوزات، بل انقلاباً تشريعياً مُكتمل الأركان، حيث تجاوز عدد “القرارات بقوانين” الصادرة عن الرئيس عباس المنتهية ولايته الدستورية، في فترة حُكمه الممتدة، ما يُعادل إنتاج “خمسين سنة” تشريع، مقارنة بعدد القوانين التي أصدرها المجلس التشريعي الفلسطيني الأول خلال ولايته التي امتدت عشر سنوات (1996-2006) وما زالت تصدر دون توقف.
لم يشهد أي نظام في العالم هذا القهر الهائل من تَغوُّل التشريعات الاستثنائية (القرارات بقوانين)، التي تحولت إلى وسيلة لفرض حكم الفرد، وإعادة هندسة النظام السياسي، وفق رؤية تكرّس المركزية المطلقة في يد رجل واحد، بلا أي تفويض دستوري أو شرعية انتخابية.
استخدام منظمة التحرير كغطاء للهيمنة
وفي سبيل تحقيق ذلك، استخدم الرئيس عباس منظمة التحرير الفلسطينية – التي غابت عنها الانتخابات منذ إنشائها عام 1964، وتحولت إلى أداة تُستخدم كغطاء سياسي لتبرير التجاوزات والانفراد بالقرار، دون أن يُطرح السؤال حول شرعيتها؟.
الحقيقة أن الشرعية لا تُؤخذ بالشعارات، ولا تُمنح بالقرارات، بل تُستمد من الإرادة الشعبية وحدها، التي غُيّبت عن المشهد لسنوات طويلة. ومهما طال الالتفاف على الشرعية، يظل الشعب هو صاحب الكلمة الفصل، ومصدر كل السلطات، وصاحب السيادة الحقيقية. قد تتم صناعة الواقع بقرارات مُنعدمة، لكن التاريخ لا يُكتب إلا بإرادة شعبية لا تُصادر، وشرعية لا تُنتزع.
عودة على بدء: مؤسسة مجدلاني كأداة لتركيز السلطة
بالعودة مجدداً، للقرار بقانون رقم (1) لسنة 2019 بشأن المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي، أو مؤسسة مجدلاني، وبتعبير أدق مؤسسة الرئيس المنتهية ولايته من خلال مجدلاني، فقد نصت المادة (7) من هذا القرار بقانون على أن يكون لهذا المؤسسة مجلس أمناء، برئاسة وزير التنمية الاجتماعية، وعضوية كل من:
أ. ممثل عن وزارة التنمية الاجتماعية من موظفي الفئة العليا من ذوي الاختصاص.
ب. ممثل عن وزارة العمل من موظفي الفئة العليا من ذوي الاختصاص.
ج. ممثل عن وزارة المالية والتخطيط من موظفي الفئة العليا من ذوي الاختصاص.
د. عن وزارة الاقتصاد الوطني من موظفي الفئة العليا من ذوي الاختصاص.
هـ. ممثل عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية من موظفي الفئة العليا من ذوي الاختصاص.
و. ممثل عن سلطة النقد.
ز. ممثل عن صندوق الاستثمار الفلسطيني.
ح. ممثل عن المجلس الأعلى للشباب والرياضة.
ط. ممثل عن القطاع الخاص الفلسطيني.
ي. ممثل عن البنك الإسلامي للتنمية في جدة.
ك. ممثل عن المجتمع المدني.
ل. خبير اقتصادي أكاديمي متخصص بالتمويل الإسلامي.
ونصت المادة (5) من هذا القرار بقانون، على أهداف المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي، والتي تتمثل، من بين أمور أخرى، في: العمل كمؤسسة “تمويل إسلامية” وفقاً للسياسة التي يقررها مجلس أمناء المؤسسة، وإنشاء صناديق وقفية بالشراكة مع البنك الإسلامي للتنمية، والصناديق العربية والإسلامية. علماً أن المجلس الأعلى للشباب والرياضة ، شكله، أيضاً، الرئيس المنتهية ولايته بمرسوم رئاسي في العام 2011 وهو برئاسة رجل الأعمال الفلسطيني منيب المصري (91 عاماً).
تفصيل على المقاس: مؤسسة لشخص بعينه
من الواضح، أن هذا القرار بقانون، والقرارات بقوانين والمراسيم الرئاسية التي تليه، صُمّمت لشخص بعينه خلافاً لأبجديات القاعدة القانونية التي تتمثل في العمومية والتجريد. حيث صدر هذا القرار بقانون ونُشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 27/1/2019. في مايو 2009 تسلّم السيد أحمد مجدلاني حقيبة وزارة العمل واستمر حتى يونيو 2014، تم كُلّف بمهام وزير الزراعة بين أغسطس 2011 ومايو 2012، ثم عُيّن في عام 2018 رئيساً لمجلس إدارة هيئة التقاعد الفلسطينية حتى نوفمبر 2020، إلى أن عُيّن “وزيراً للتنمية الاجتماعية” في 13 أبريل 2019 واستمر حتى 31 مارس 2024. وفي حين أنه لم يشغل أي حقيبة وزارية في الحكومة الفلسطينية الحالية الـ 19برئاسة د. محمد مصطفى فقد تَكفّلت القرارات بقوانين والمراسم (سنأتي على المزيد منها) بتجريد وزيرة التنمية من ملفات ضمن اختصاص وزارة التنمية، وإحالتها إلى مجدلاني، مُجدداً، كوزير ظل للتنمية.
وزير التنمية الفعلي: مجدلاني في موقعه، مهما تغيّرت الحكومات
على الرغم من أن الحكومة الفلسطينية الـ19، برئاسة د. محمد مصطفى، لم تضم السيد مجدلاني في أي حقيبة وزارية، إلا أن التشريعات الاستثنائية (القرارات بقوانين) والمراسيم الرئاسية قد تكفّلت بمنحه الصلاحيات الفعلية كاملة، حيث تمَّ تجريد وزيرة التنمية الاجتماعية الحالية من ملفات أساسية ضمن اختصاص وزارتها، وإحالتها إلى مجدلاني، الذي بات عملياً وزير الظل للتنمية الاجتماعية، بلا أي موقع رسمي في الحكومة، ولكن بصلاحيات أوسع بكثير من الوزير الفعلي.
مجدلاني في قلب “الممثل الشرعي والوحيد”… فوق كل مساءلة
الأمر لا يقف عند حدود هذه المؤسسة وحدها، فالسيد أحمد مجدلاني (70 عاماً) ليس مُجرد مسؤول حكومي سابق، بل أحد رموز الحلقة المغلقة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي لم تشهد انتخابات منذ تأسيسها عام 1964، واستُخدمت كأداة لمنح “الشرعية المطلقة” لمن يتحكم بمفاتيح القرار، دون أي تفويض شعبي حقيقي.
السيد مجدلاني، هو رئيس مؤسسة مجدلاني، وهو عضو في:
• المجلس الوطني الفلسطيني منذ عام 1988.
• المجلس المركزي الفلسطيني منذ عام 1993.
• اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 2009.
وهذا يعني، بوضوح، أن هذه المؤسسة (حكومة الظل) التي يُديرها الرئيس المنتهية ولايته من خلال مجدلاني، تعمل خارج أي مساءلة، حيث تتجاوز كل الآليات الديمقراطية، وتُعيد إنتاج المركزية المطلقة، بعيداً عن أيّ رقابة حكومية أو تشريعية.
القرارات بقوانين تنهمر… ومؤسسة مجدلاني تُحكم قبضتها
صدر القرار بقانون رقم (19) لسنة 2021 بتعديل القرار بقانون رقم (1) لسنة 2019 بشأن المؤسسة الوطنية للتمكين الاقتصادي، ونُشر في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) في العدد (179) بتاريخ 26/05/2021. استهدف هذا التعديل إعادة تشكيل مجلس الأمناء عبر إضافة ممثل عن وزارة الزراعة وممثل عن وزارة شؤون المرأة من موظفي الفئة العليا، في خطوة بدت كأنها تمددٌ محسوبٌ في رقعة النفوذ، استعداداً للخطوة التالية: تمكين أحمد مجدلاني من إدارة المؤسسة بالكامل.
لم تكد تمضي ثلاث سنوات، حتى صدرت ضربة حاسِمة، عبر القرار بقانون رقم (2) لسنة 2024 الذي نُشر في العدد (213) من الجريدة الرسمية بتاريخ 28/04/2024، والذي قضى بإقصاء وزير التنمية الاجتماعية (الحكومة) من رئاسة المؤسسة، واستبداله بعبارة فضفاضة: “برئاسة شخصية تُعيّن بقرار من الرئيس”. كما خرج من مجلس أمناء هذه المؤسسة كل من ممثل وزارة شؤون المرأة، وممثل صندوق الاستثمار الفلسطيني، وممثل المجلس الأعلى للشباب والرياضة، وممثل البنك الإسلامي في جدة، ليبقى التشكيل كما هو تقريباً، لكن مع إحكام السيطرة على مفاصل القرار من الحلقة الضيقة.
ولم يطل الانتظار! ففي اليوم نفسه (28/04/2024)، نُشِر القرار الرئاسي رقم (27) لسنة 2024 بتعيين أحمد عبد السلام حسن مجدلاني رئيساً لمجلس أمناء المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية). جاء هذا القرار ليضع حداً لأي شكوك حول مسار هذه التعديلات المتلاحقة، ويُغلق الدائرة بإحكام. المؤسسة لم تعد مجرد أداة رعاية اجتماعية وتمكين اقتصادي، بل كيان مُفصَّل على مقاس رجل واحد، بعيدًا عن أي رقابة أو مساءلة.
بهذه الخطوات المتلاحقة، تحولت المؤسسة إلى كيان يُعيد توزيع السلطة والنفوذ وفق هندسة سياسية محسوبة، تُقصِي الحكومة تماماً من الملف، وتفتح الباب أمام إدارة مالية مستقلة خارج الأطر الرسمية، مستندة إلى قرارات بقوانين غير دستورية. لم يكن الهدف “تمكين الفئات المهمشة”، بل كان التمكين الحقيقي لرأس المؤسسة ورعاتها، وتحصينها ضد أي رقابة.
الهندسة الكاملة للمال العام: مؤسسة تُصنع بقرار، تُحسم بمرسوم، وتُغلق بدائرة منعدمة دستورياً
لم يعد الأمر مجرد تعديلات، بل انزلاق منهجي نحو إعادة رسم خارطة السلطة المالية، عبر خلق “مؤسسات ظل” تتحكم بالقرار والموارد، دون أي مساءلة حكومية أو تشريعية. ما يجري ليس استثناءً، بل نهجٌ راسخٌ في “فن الحُكم بالقرارات بقوانين”، حيث تُستبدل القوانين الدستورية بقرارات فردية، ويتم تصفية صلاحيات الحكومة، لصالح كيانات مُفصَّلة مُسبقاً على المقاس.
هنا، لم يعد الأمر مُجرد تلاعب في الهياكل، بل انزلاق ممنهج نحو هندسة جديدة لإدارة المال العام، تحت مظلة مؤسسة صُنعت بقرار، وحُسم أمرها بمرسوم، وأُغلقت دوائرها بجرائم دستورية موصوفة، وباتت بانتظار المساءلة والعدالة الانتقالية الشاملة.
التمييز بين الشهداء جريمة دستورية
استمر الرئيس عباس، المنتهية ولايته، في إصدار سيل من القرارات بقوانين مع حلقته الضيقة، دون توقف، حتى في ظل جرائم الإبادة الجماعية في غزة. ولن يتوقف، طالما أن الناس، مصدر السلطات، غير مكترثين بالتحضيرات التي تجري على قدم وساق لخلافته، وامتداد الهوان لسنوات مديدة. ما لم يُكسَر بعصيانٍ مدني حضاري وعدالة انتقالية شاملة، تُعيد توجيه البوصلة نحو الحرية، واحترام الحقوق والكرامة، وترسيخ حق تقرير المصير، إيذاناً بطيّ صفحة الاستبداد والانطلاق نحو النور.
أصدر الرئيس المنتهية ولايته القرار بقانون رقم 7 لسنة 2024 بشأن تعديل قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية رقم 8 لسنة 2005 وتعديلاته. ونُشِر هذا التعديل في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) في العدد رقم (216) الصادر بتاريخ 22/07/2024. أطاح هذا القرار بقانون الجديد، المباغت، بجهود الإصلاح في المؤسسة الأمنية منذ عام 2002، بضربة واحدة.
تجاهلت تلك القرارات بقوانين التي صدرت مؤخراً بشأن المؤسسة الأمنية الفلسطينية بشكل صارخ أن الصلاحيات التنفيذية على الأجهزة الأمنية الفلسطينية كافة قد انتقلت إلى مجلس الوزراء (الحكومة) منذ التعديلات الجوهرية على القانون الأساسي المعدل (الدستور) عام 2003، والتي جعلت تلك الصلاحيات حصرية للحكومة، لا للرئيس. ولم تقتصر على ذلك، بل تجاهلت التحوُّل العميق في النظام السياسي الفلسطيني، نحو النظام البرلماني، الذي لا يَمنح الرئيس أي سلطات تنفيذية مباشرة على المؤسسة الأمنية، تماماً كملك بريطانيا، في محاولة للالتفاف على أحكام الدستور الفلسطيني، مما يعني إنها مُنعدمة دستورياً.
السيطرة المطلقة على المؤسسة الأمنية
أجرى الرئيس المنتهية ولايته، تعديلات هائلة، على قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية بموجب هذا القرار بقانون، وبات يُسيطر سيطرة مطلقة على جميع قوى الأمن، على حساب الصلاحيات الدستورية للحكومة على المؤسسة الأمنية الفلسطينية.
أضافت تلك التعديلات “الحرس الرئاسي” كقوة أمينة رابعة إلى جانب (قوات الأمن الوطني، الأمن الداخلي، والمخابرات العامة) وفق التعديل الذي جرى على المادة (3) من القانون الأصلي. كما وأضافت التعديلات التي جرت على ذات المادة (3) من القانون الأصلي تعديلاً جديداً مفاده أن “تنشأ هيئات ومديريات قوى الأمن، ويُنظم عملها من حيث تبعيتها وطبيعة الخدمات المساندة التي تقدمها ومهامها وطريقة تعيين رؤسائها أو مدرائها، بموجب نظام يصدر عن القائد الأعلى”. والقائد الأعلى بحسب التعريفات الواردة في نص المادة الأولى من قانون الخدمة في قوى الأمن الأصلي رقم 8 لسنة 2005 وتعديلاته؛ هو رئيس السلطة الوطنية.
وجرى تعديل المادة 8 من القانون الأصلي وأصبح تعيين العائد العام، وإنهاء خدماته، يتم بقرار من القائد الأعلى (الرئيس) وهو مسؤولٌ أمامه. وإضافة مادة تحمل الرقم (8 مكرر) نصت على أن يتم تعيين قائد قوات الأمن الوطني ونائبه بقرار من القائد الأعلى (الرئيس) وتعيين قائد الاستخبارات العسكرية ونائبه بقرار من القائد الأعلى (الرئيس) والجميع مسؤول أمامه.
وجرى تعديل المادة (12) من القانون الأصلي بموجب القرار بقانون رقم (7) لسنة 2024 بشأن تعديل قانون الخدمة في قوى الأمن بحيث يتم تعيين جميع مدراء قوى الأمن الداخلي بقرار القائد الأعلى (الرئيس). وإلغاء المادة (11) المتعلقة بمدير الأمن الداخلي. وتعديل المادة (14) بحيث يتم تعيين رئيس جهاز المخابرات العامة وإنهاء خدماته بقرار من القائد الأعلى (الرئيس).
وجرى إضافة مادة جديدة للقانون الأصلي بعد المادة (15) تحمل الرقم (15 مكرر) بشأن “الحرس الرئاسي” كقوة من قوى الأمن في القرار بقانون 2024، وهيئة عسكرية وأمنية ذات طبيعة خاصة، تتبع الرئيس مباشرة وتأتمر بأوامره، يُعيّن قائدها ويُنهي خدماته، ويُنظم عملها ومهامها بموجب تشريع خاص. وتختص، من بين أمور أخرى، بتأمين الحماية الكاملة للرئيس وعائلته ومقرات إقامته داخل أو خارج الدولة، وتنفيذ أي مهام أخرى ميدانية لحفظ الأمن والنظام العام بتكليف من الرئيس.
وجرى تعديل المادة (16) من القانون الأصلي (هيئة التنظيم والإدارة) باعتبارها هيئة نظامية تتبع القائد الأعلى (الرئيس) ويتم تعيين رئيس الهيئة بموجب قرار من القائد الأعلى (الرئيس). وجرى تعديل المادة (17) من القانون الأصلي (لجنة الضباط لقوى الأمن) بحيث تكون برئاسة ضابط من ذوي الخبرة والكفاءة، لا تقل رتبته عن لواء، يُعيّن بقرار من القائد الأعلى (الرئيس).
وجرى إضافة رئيس المخابرات العامة (بدل نائب الرئيس)، وقائد الحرس الرئاسي، وقائد جهاز الاستخبارات العسكرية، ورئيس هيئة التنظيم والإدارة، إلى تشكيل لجنة الضباط، وإخراج أعضاء من التشكيل الوارد في قانون الخدمة في قوى الأمن الأصلي رقم 8 لسنة 2005 وتعديلاته. كما وجرى تعديل المادة (42) بشأن “مدة خدمة اللواء” بحيث أجاز التعديل مَد خدمة أي من الضباط من حملة رتبة لواء فأعلى، بعد بلوغ سن الستين، لمدة ثلاث سنوات، بقرار من القائد الأعلى (الرئيس). وغيرها من التعديلات، واسعة النطاق، التي جرت بموجب القرار بقانون رقم (7) لسنة 2024 بشأن تعديل قانون الخدمة في قوى الأمن.
التمييز بين الشهداء: مفارقة قانونية وأخلاقية
لكن المشهد الأكثر خطورة ظهر مع صدور القرار بقانون رقم (5) لسنة 2025، الذي أتى ليُكمل مشهد الفوضى التشريعية، وليُكرس أخطر عملية تمييز دستوري في تاريخ التشريع الفلسطيني. ففي اليوم ذاته، الذي صدر فيه المرسوم الرئاسي المتعلق بمخصصات الشهداء والأسرى والجرحى، نُشِر القرار بقانون رقم (5) لسنة 2025 في الجريدة الرسمية في العدد (222) بتاريخ 10/02/2025، ليمنح شهداء المؤسسة الأمنية امتيازات استثنائية، في مقابل تجريد غيرهم من الشهداء من حقوقهم، ودفعِهم إلى مؤسسة الرئيس المنتهية ولايته، التي تُدار عبر مجدلاني، لتتم معاملتهم كملفات إعانة اجتماعية، لا كحقوق كَفلها الدستور.
بموجب القرار بقانون الجديد (2025)، تم استحداث مفهوم “شهيد الواجب الوطني”، ليُعامل العسكري المتوفى أثناء أداء مهامه الأمنية معاملة استثنائية، بحيث تبقى خدمته مستمرة حتى تاريخ تقاعده الافتراضي، مع ترقيته تلقائياً إلى الرتبة التالية، واستمرار صرف راتبه وعلاواته، كما لو كان على رأس عمله، حتى بلوغه سن التقاعد، لينتقل ملفه بعد ذلك إلى هيئة التقاعد، التي تضمن لأسرته معاشاً تقاعدياً لا يقل عن (70%) من إجمالي المخصصات، على أن تتحمل الخزينة العامة الفروقات عنه.
وهذا ما نصت المادة (3) من القرار بقانون الجديد (2025) بإضافة مادة جديدة تحمل الرقم (206 مكرر) جاءت بالآتي:
“1. يُسمى العسكري المتوفى بسبب أو أثناء أداء واجبه الوطني شهيد الواجب الوطني، ويصدر لهذه الغاية قرار باعتماد من القائد الأعلى [الرئيس] بناءً على توصية من لجنة الضبا
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=83941