جورج إبراهيم عبد الله.. حين يعود المناضل ويغيب الوطن
رام الله – الشاهد| كتب محمود كلم: في يومٍ كان من المفترض أن يكون عادياً، تحوَّل الخامس والعشرين من تموز إلى لحظةٍ مريرةٍ للتأمل في معنى الوفاء… والنسيان.
لحظة الإفراج عن الرفيق جورج إبراهيم عبد الله، بعد أكثر من أربعة عقود قضاها خلف القضبان، لم تكن مجرد خبرٍ سار، بل كانت صدمةً أخلاقيةً موجعةً لكلّ من مرّت حياته مرور الكرام، بينما ظلّ هو هناك، سجيناً في عتمة الزنازين الفرنسية منذ عام 1984.
نكتب الآن بفرحٍ ممزوجٍ بالخجل… بترحيبٍ خجولٍ تأخّر واحداً وأربعين عاماً.
نكتب، وقد تأكدنا أن الجدران كانت أوفى منّا؛ صبرت معه، احتفظت بصوته، وصارت تحفظ وجهه أكثر مما نحفظه نحن.
سامحنا يا جورج،
لأننا أكملنا حياتنا… ذهبنا إلى أعمالنا، تناقشنا في السياسة، عشقنا، سافرنا، شربنا القهوة في الصباح، وتبادلنا التهاني في الأعياد، بينما كنت تطفئ شموع الحرية وحدك، في زنزانةٍ ضيقةٍ، حيث لا شمس تعترف بالوقت.
سامحنا يا جورج،
لأننا لم نصرخ بما يكفي، لم نحاصر السفارات، لم نكتب اسمك على الجدران، لم نحملك في قلوبنا كما ينبغي، لم نربِّ أبناءنا على حكايتك، كما تُربّى الأجيال على أساطير البطولة الحقيقية.
نعتذر لأننا لم نقف كلّ صباحٍ لنعدّ الأيام التي مرّت عليك هناك.
نعتذر لأن صمتنا كان طويلاً… أطول من لياليك الباردة.
نعتذر لأن خذلاننا لك لم يكن مرةً واحدة، بل خذلناك كلَّ يومٍ، بصمتنا، ببلادتنا، بنسياننا.
ولأن الحبر لا ينسى، نستعيد اليوم كلماتٍ كتبها لك الراحل الصحفي الكبير طلال سلمان، قبل أكثر من عقد، حين قال لك بحبٍّ وحرقة:
“لا تعُد يا جورج… لا تعُد.”
قالها لأنه خاف عليك من وطنٍ تغيّر، من ناسٍ استبدلوا البوصلة، من زمنٍ لم يعُد يُنصف الأوفياء.
لكنك عدت.
عدت لأنك من طينةٍ لا تعرف الهروب، لأنك لم تفرّ من قدرك، كما لم تهرب من قضيتك.
عدت… ولم تسمع النصيحة.
فهل نستحقك؟
لقد قلتها يومًا أمام قضاتهم:
“أنا مقاتل، ولست مجرماً.”
كان يجب أن نردّدها معك، أن نحملها كما نحمل نشيداً، أن نجعلها شعاراً لا يموت.
لكننا تركناك وحدك، في مواجهة عالمٍ لا يعترف بالشرفاء.
اليوم تعود، حرّاً… شامخاً…
لكننا لسنا أحراراً من خيبتنا.
لقد خذلناك… ونعترف.
سامحنا يا جورج، إن كان في قلبك متّسعٌ لمن خانوا الذاكرة.
سامحنا، فإنّ العار أقسى من السجن… ونحن نحمله اليوم في صدورنا.
وسيستقبلك الجميع بالقبلات، والأحضان، والخُطب الطنّانة.
ستُقام المهرجانات احتفاءً بعودتك سالماً، وستُخصَّص لك المقابلات على الشاشات الفضائية والأرضية، وفي الصحف التي تعيش زمن بؤسها المهني والأخلاقي.
لكن الحقيقة المُرّة، التي ستتكشّف لك بعد أيام، أن زنزانتك كانت أرحب، وأن سجّانيك هناك، كانوا أرحم من سجّاني بلادك… الذين ألغوا معنى الوطن والمواطن، فكيف بالمناضل؟
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=91571