تسونامي الأساطيل.. حين أيقظت غزة ضمير العالم

تسونامي الأساطيل.. حين أيقظت غزة ضمير العالم

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني غسان جابر مقالاً حول أسطول الصمود الذي تعرض لعدوان وقرصنة من قبل جيش الاحتلال قبل وصوله لسواحل قطاع غزة، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

لم تعد غزة محاصرة وحدها. الحقيقة أن من حوصِر اليوم هو الضمير العالمي. وما جرى في صيف 2025 لم يكن مجرد قافلة بحرية، بل كان تسوناميًا سياسيًا وإنسانيًا اجتاح شوارع أوروبا والعواصم الإسلامية، مزلزلًا قواعد الحكومات المتواطئة، ومؤكدًا أن سفينة صغيرة يمكن أن تهز عرشًا كبيرًا.

لقد تحرك “أسطول الصمود العالمي” بما يشبه المعجزة: أكثر من خمسين سفينة، آلاف النشطاء من أربع وأربعين دولة، شخصيات عالمية بارزة، فنانة أمريكية تحمل رسالة الحرية، ناشطة بيئية سويدية تهتف لفلسطين، وحفيد مانديلا يرفع علم غزة في قلب البحر. مشهدٌ لا يشبه سوى الأساطير، لكنه هذه المرة ليس على الورق، بل على أمواج المتوسط التي تحولت إلى خط مواجهة عالمي.

إسرائيل حشدت كل أدواتها: بوارج، كوماندوز بحري، طائرات مسيّرة. اعترضت، ضربت، أغرقت، واعتقلت. لكنها لم تنتصر. لماذا؟ لأن النصر هنا لم يكن يقاس بعدد الصناديق التي وصلت أو لم تصل، بل بالزلزال الذي دوّى في شوارع باريس ولندن ومدريد و روما. فجأة، عشرات الآلاف يهتفون: “غزة حرة… غزة تنتصر”. فجأة، غزة لم تعد خبرًا في الهامش، بل تحولت إلى قضية شعبية تطرق أبواب البرلمانات الأوروبية.

ولأول مرة منذ عقود، تهتز حكومات أوروبية تحت ضغط الشارع بسبب فلسطين. بعض العواصم وجدت نفسها محاصَرة بمظاهرات يومية، بعضها أمام السفارات الإسرائيلية، وبعضها أمام مقار وزارات الدفاع. صحف كبرى كتبت: “العار على أوروبا… غزة تكشف وجوهنا الحقيقية”. وهنا بدأت المعادلة تنقلب: ما كان يُحسب “نصرًا إسرائيليًا في البحر” صار هزيمة سياسية على اليابسة.

وفي العالم الإسلامي، كان المشهد أكبر. من الرباط إلى كوالالمبور، ومن إسطنبول إلى جاكرتا، خرجت الملايين. لم تكن مسيرات رمزية، بل صرخة غضب جماعية أعادت إلى الذاكرة لحظة الانتفاضات الكبرى. وكأن غزة، بجراحها وحصارها، أعادت للأمة نبضها المفقود.

إن ما صنعته الأساطيل ليس مجرد “إغاثة”، بل هو كسرٌ رمزي للحصار الذي حاول الاحتلال فرضه على فلسطين، وعلى الضمير الإنساني كله. لقد عرّت إسرائيل أمام العالم، وأثبتت أن ما يجري في غزة ليس شأناً فلسطينياً داخلياً، بل قضية أخلاقية وسياسية كبرى تهدد شرعية حكومات وتكشف ازدواجية أنظمة.

اليوم، حين يهتف الآلاف في شوارع أوروبا ضد حكوماتهم، فإننا أمام مشهد غير مسبوق منذ حرب فيتنام. وحين يُقال إن حكومة أوروبية أو اثنتين قد تسقط تحت ضغط هذا التسونامي، فذلك ليس خيالاً بل احتمال سياسي واقعي.

غزة، التي أرادوا خنقها، صارت اليوم شعلة تفضح وتحرّض وتوحد. غزة الصغيرة حاصرت الاحتلال وأربكت أوروبا، وأيقظت الأمة. ولأن الأساطيل تحولت إلى رمز عالمي، فإن الموجة لن تتوقف. إسرائيل تستطيع أن تحتجز سفينة، لكنها لا تستطيع أن تحتجز البحر. تستطيع أن تعتقل ناشطًا، لكنها لا تستطيع أن تعتقل الضمير.

هذا هو معنى التسونامي: أن تتحول سفينة إلى بركان، وأن تصبح غزة بوابة التغيير العالمي. ومن رحم الحصار يولد الفجر.

إغلاق