الفساد بين “بلاد التنين” و”بلاد التنوين”

الفساد بين “بلاد التنين” و”بلاد التنوين”

رام الله – الشاهد| خط الكاتب الفلسطيني غسان جابر مقالاً حول قضايا الفساد التي تورط بها عدد من مسؤولي السلطة، والذين يتم ملاحقتهم قانونياً بعد أن نجح بعضهم في الهرب خارج البلاد، وسط حالة من الانتقاد لتهليل إعلام السلطة لمكافحة تلك المحاولات التي كانت معروفة منذ سنوات ولم يتم التحقيق معها، وفيما يلي نص المقال كاملاً.

في بلاد التنين، حيث يختلط الانضباط برائحة الشاي الأخضر، وحيث المليون موظف يقفون في طوابير كأنهم رموز برمجية في نظام تشغيل ضخم، يقال إن رئيسًا واحدًا أشار بأصبعه فاختفى نصف الوزراء في تقرير المساء. لا أحد يعرف إلى أين ذهبوا، لكنّ أحدًا لا يسأل. المهم أن المؤشر الاقتصادي صعد، والشعب نام مطمئنًا.

أما في بلاد التنوين — تلك التي تنوّن فيها الكلمات وتتبخر فيها المسؤوليات — فالإصلاح يبدأ دائمًا في نشرة الأخبار، وينتهي في حفل تكريم «الجهود المبذولة لمكافحة الفساد». الفارق بسيط: في الصين الفاسد يُطارد، وفي بلاد التنوين الفاسد يُستضاف في مؤتمر عن النزاهة ويلقي كلمة عن تجربته «الناجحة».

الصين: حيث الخطأ يُكلفك مستقبلك

في الصين، لا يُعلن المسؤول استقالته ببيان ناعم، بل يُستدعى في منتصف الليل إلى اجتماعٍ مغلق لا يخرج منه إلا قرار رسمي بعنوان: “تم التحقيق واتخذت الإجراءات”. في اليوم التالي، لا أحد يسأل أين ذهب الرجل. الكل يعرف أن الفساد هناك ليس مرضًا إداريًا بل خيانة للوطن، وأن القانون لا يسأل عن المرتبة أو اللقب، بل عن الدليل.

الموظف في الصين يعرف أن الكاميرا التي ترصده في المكتب ليست للزينة، وأن الجملة “سيتم مراجعة أدائك” قد تعني فعلاً مراجعة جادة. لذلك يوقّع على المعاملة مرتين: مرة خوفًا من الخطأ، ومرة خوفًا من أن يُتهم بعدم الحذر الكافي.

في الصين، العقوبة تأتي أسرع من إشعار البريد الإلكتروني، والإصلاح ليس شعارًا موسميًا بل نمط حياة: تُقاس نزاهتك بعدد الليالي التي تنامها دون مكالمة من لجنة الانضباط الحزبي.

بلاد التنوين: حيث يُفتح الملف ويُغلق على فنجان قهوة

أما في بلاد التنوين، فالموظف الشريف هو من يكتب تقريرًا عن الفساد… ثم يُطلب منه تعديله حتى «يتماشى مع الواقع».
اللجان تتكاثر كالأرانب: لجنة للشفافية، لجنة للمتابعة، لجنة لتقييم أداء لجنة المتابعة. والنتيجة؟ اجتماعٌ موسّع ينتهي بقرارٍ مؤجل إلى الاجتماع القادم.

في دولة التنوين ، إذا كُشف فساد، يسارع الجميع إلى تشكيل لجنة، ثم لجنة للتحقق من أعمال اللجنة، ثم لجنة لمراجعة نتائج اللجنة السابقة. وفي النهاية، يخرج البيان الرسمي:

> «لم يثبت وجود فساد، لكننا نوصي بتعزيز قيم النزاهة».

الملفات لا تُغلق لأن العدالة تحققت، بل لأنها «حُفظت مؤقتًا لعدم كفاية الأدلة» — وهو التعبير اللطيف الذي يعني عادةً: «الأدلة موجودة، لكن أصحابها موجودون أيضًا».

فلسفة الوقت والانتظار

في الصين، الزمن جزء من سلاح الدولة. كل دقيقة لها ثمن، وكل قرار له توقيت. أما في بلاد التنوين، الزمن عنصرٌ مرن. يمكن تأجيل العدالة إلى حين «استقرار الوضع»، أو «انتهاء المشاورات»، أو «عودة الوزير من السفر».

الملف الواحد يعيش أعمارًا متعددة: يفتح في عهدٍ، يُراجع في عهدٍ آخر، ثم يُنقل للأرشيف في عهدٍ ثالث. لا أحد يُحاسب، لكن الجميع «ملتزم بالشفافية».

أحد المسؤولين في بلاد التنوين قال مرةً جملة خالدة:

> “نحن نُحارب الفساد، لكن بطريقة تحافظ على الاستقرار.”
ترجمتها الواقعية:
“نحن نُحارب الفساد… حتى لا يختل توازن الفاسدين.”

الشفافية حسب المقاس

في الصين، الشفافية تعني أن الجميع تحت الرقابة، حتى من يُراقب. في بلاد التنوين، الشفافية تشبه الزجاج الملون: ترى ما يريدونك أن تراه فقط.

يُقال إن بعض التقارير تُكتب بلغةٍ متوازنة حتى لا تزعج أحدًا، فيخرج تقرير عن «تحسين الأداء المؤسسي» بدلًا من «نهب المال العام». وكلما طال التقرير زادت احتمالات دفنه في درجٍ أنيق.

وحين تسأل: أين ذهبت المليارات؟
يُجيبك أحدهم بثقةٍ اقتصادية: «المسألة فنية… والأموال لم تضِع، بل أعيد تدويرها في المشاريع.»
تكتشف لاحقًا أن كلمة «تدوير» كانت دقيقة جدًا — لأن المال دُوّر فعلاً من حسابٍ إلى آخر حتى تعب النظام المصرفي من متابعته.

المواطن بين الصين والتنوين

في الصين، المواطن يخاف من القانون لكنه يثق أنه يعمل.
في بلاد التنوين، المواطن لا يخاف من القانون لأنه لا يراه أصلًا — القانون مشغول في لجنة صياغة القانون.

المواطن الصيني يرى فاسدًا واحدًا يُعاقَب فيفرح بأن العدالة تسير.
المواطن في بلاد التنوين يرى فاسدين يتبادلون النكات في مؤتمرات النزاهة فيسأل نفسه: «هل المشكلة في الفساد أم في تعريف النزاهة؟»

خطاب الزعيم

في الصين، حين يتحدث الزعيم عن مكافحة الفساد، تبدأ القلوب بالارتجاف والحقائب بالاختفاء.
في بلاد التنوين، حين يتحدث الزعيم عن مكافحة الفساد، تبدأ الصفحات الرسمية بالتهليل: “توجيهات حكيمة”، “رؤية إصلاحية”، “مرحلة جديدة من الشفافية”.

ثم تمر الأسابيع، ويعود كل شيء إلى مكانه:
الفاسدون في مناصبهم، الشكاوى في الأدراج، والشعب في طوابير الكهرباء والماء، ينتظر “إصلاحًا” يأتي بعد نشر التقرير السنوي القادم.

البيروقراطية كعقيدة وطنية

في الصين، البيروقراطية وسيلة لتنظيم العمل.
في بلاد التنوين، البيروقراطية هي العمل.

إذا أردت محاسبة مسؤولٍ فاسد، تحتاج إلى:

1. إذن من جهة مختصة.

2. توقيع من جهة غير مختصة.

3. تنسيق مع لجنة التنسيق.

4. اجتماع لتحديد موعد الاجتماع القادم.

وبعد أشهر من الأوراق، تُفاجأ بأن المسؤول قد تقاعد… أو رُقّي.

الدروس المستفادة (نظريًا)

في الصين: النظام يخاف من الفساد لأنه يهدد الدولة.

في بلاد التنوين: النظام يتعايش مع الفساد لأنه جزء من الدولة.

في الصين: الإصلاح مشروع دولة.

في بلاد التنوين: الإصلاح مشروع إعلامي.

في الصين: العقوبة تبدأ من الأعلى.

في بلاد التنوين: التحقيق يبدأ من الأدنى… وينتهي عنده.

النهاية… أو البداية التي لا تنتهي

في بلاد التنين، تُقطع الأيادي الرمزية كي تبقى الدولة واقفة.
في بلاد التنوين، تُصافح الأيادي نفسها في حفلات الاستقبال الرسمية.

وإذا سألت أحد الحكماء هناك عن سبب استمرار الفساد، سيبتسم ويقول:

> “يا بني، الفساد في بلادنا ليس عيبًا، بل تخصص جامعي. البعض يتخرج بدرجة الشرف.”

ومع ذلك، ما زال المواطن يأمل. لأن الأمل، كما يقولون في بلاد التنوين، لا يخضع للرقابة ولا يحتاج إلى لجنة.

نقول: الصين بَنَت سورًا يحميها من الغزاة،
أما بلاد التنوين فبَنَت جدارًا من البيانات لحماية الفاسدين من العدالة.

وفي الحالتين… ما زال الشعب ينتظر الإصلاح —
لكن في الصين يأتي سريعًا كقطار فائق السرعة،
وفي بلاد التنوين… يصل متأخرًا، بعد أن يبدّل الفاسد عنوانه ويغادر بلاد التنوين.

إغلاق