الخائن يُستَخدم ثم يُرمى.. تأملات في زمن الانكسار الفلسطيني!

رام الله – الشاهد| كتب محمود كلّم: تسيل الكلمات كالمطر الأسود فوق وجهٍ متعب. في شارعٍ لا يُرى منه إلا أطرافه، يقبع الناس على ركام بيوتهم، يفتشون عن لقمةٍ تُحيي جوع طفلهم أو عن جرة ماءٍ تغسل وجه امرأةٍ أنهكها الحزن. وفي المقاهي التي ما زالت تحتفظ بندّى الذاكرة، تُروى أحاديث عن قيمٍ تلاشت، وعن وعودٍ ذهبت مع أول ريحٍ عاصفة.
حين يسمع البعض أن زعيماً أجنبياً قد يطلب الإفراج عن رجلٍ محبوبٍ من الجماهير(مروان البرغوثي)، يتبدّد في قلوب أهلنا مزيجٌ من الأمل والألم.
الأمل لأن صوتاً خارجياً يفكّر بصوتٍ يشبه نبض الشارع الفلسطيني؛ والألم لأن من كان يُفترض أن يقف في خندق الشعب، صار أداةً تُستَخدم ثم تُلقى.
تصريحاتٌ كهذه تُذكّرنا كيف أن السياسة الدولية تلعب دورها بدمٍ بارد على حساب حياة الناس.
أما غزة فهي كتابٌ لم يُغلق بعد، فصولٌ من الجوع والبرد والمرض تُكتب كل صباح.
لم تعد الأخبار مجرّد أرقامٍ على شاشات؛ بل أسماءُ أطفالٍ لم يعد لديهم موعدٌ مع المستقبل، وأمهاتٌ يفتقدن رائحة الخبز منذ زمنٍ طويل.
تقارير الأمم والمنظمات الدولية تصف واقعاً قاسياً: حصارٌ يمتدّ، واستجابةٌ إنسانية متقطعة، ومؤشراتُ مجاعةٍ وصلت إلى مستوياتٍ صادمةٍ في أجزاء من القطاع.
كل سطرٍ من هذه التقارير يُوجِع، لأنه يُقاس بدماء البشر ووجوههم.
وفي خلفية هذا الألم، ثمة مؤامرةٌ أكثر خفاءً وخطورةً: تآمرٌ صامت من بعض أركان السلطة في رام الله — كما تصفه اتهاماتٌ ونقاشاتٌ شعبية — يظهر في فشلٍ إداري، أو تواطؤٍ سياسي، أو تراجعٍ عن الدفاع عن حقوق الناس خوفاً من مراكز النفوذ.
ليس جديداً أن تُوجَّه للقيادات اتهامات بالفساد والضعف؛ لكن الجديد هو أن هذا الانقسام الداخلي يطعن ظهر المنتصرين الحقيقيين، أولئك الذين يئنّون تحت وطأة الحصار والقصف والجوع.
عندما تهدر السلطة مصداقيتها أو تتورّط في حساباتٍ ضيقة، لا ترى معاناة المواطنين إلا كأرقامٍ على خريطةٍ باردة، يصبح الغدر أعمق من أي عدوانٍ خارجي.
الصور الصغيرة تروي حكاياتٍ أعظم من أي تحليل:
طفلٌ يلعق بقايا عصيرٍ من علبةٍ مهشّمة، وكبيرةٌ تبحث عن دواءٍ لزوجٍ في حالةٍ حرجة،
ونساءٌ يئنّ جسدهن من التعب لكن أعينهن ما زالت تحرس الأرض كما لو أنها الوصية الأخيرة للحلم.
تلك الصور ترفع سؤالاً مرّاً: كيف سيُحاسَب كل من باع الأمل أو استسلم أمام الضغوط الدولية أو المحلية؟ وكيف سيُعاقَب من خانوا أمّتهم بتواطؤٍ صامتٍ أو فعلٍ مباشر؟.
لا تُغرينا لحظاتُ الكلام في سياساتٍ بعيدة.
فحديثٌ عن إطلاق سراحٍ أو ترشيحٍ أو وساطةٍ، مهما حمل من نوايا إنسانية، لا يعوّض أمهاتٍ فقدن أبناءهن، ولا شبّاناً باتوا يرون في القنابل واقعهم اليومي بدلاً من أحلامهم.
لا يكفي أن تتناقل الصحف أن زعيماً يفكّر في خطوةٍ رمزية، إن لم تُصاحبها خطواتٌ حقيقية لوقف المجاعة، وحماية المدنيين، وإعادة بناء مؤسساتٍ فلسطينيةٍ شفافة تُعنى بالناس لا بالمناصب.
وما يزيد الوجع أن كثيرين في رام الله نفسها يشعرون بأنّ قياداتهم اختارت مساراً يبعدها عن نبض الشارع.
الاتهامات ليست أخلاقيةً فحسب؛ بل سياسيةٌ بامتياز، إذ إن فشل القيادة أو تواطؤها مع ضغوطٍ خارجيةٍ أو داخليةٍ يُترجم إلى حياةٍ تُهدَر.
قد تبدو هذه الكلمات قاسية، لكن الذين يعيشون في غزة هم وحدهم من يملكون تصديقها أو نفيها؛ لأن حكمهم قائمٌ على الجوع والحزن والدموع.
وفي نهايةٍ حزينة، يبقى السؤال الذي لا يُجاب عنه بسهولة:
كيف نُعيدُ للوجوه عافيتها؟ كيف نُعيدُ للشعب قيادته التي تسمع له؟ كيف نُعيدُ للأرض كرامتها دون أن يكون ذلك وعداً يتلاشى عند أول اختبار؟.
وربما الأشدّ ألماً، كيف نُعيدُ للذين خانوا أنفسهم مكاناً في ذاكرةٍ ترفض النسيان؟.
هذا المقال لا يقدم حلاً سحرياً، بل هو مرآةٌ مظلمة تُظهِر ما آل إليه الواقع من قهرٍ في غزة، وتلطّخ سمعةٍ في رام الله، ولعبةٍ دوليةٍ تُستعمَل فيها الرموز وتُرمى عند أول انتهاء الغرض.
والدموع على هذه الأرض وحدها لا تكفي؛ فالمحاسبة الحقيقية، والعمل الصادق، واستعادة الثقة، هي ما قد يحوّل هذا الحزن إلى بدايةٍ جديدة، ليست بالضرورة سعيدة، لكنها على الأقل عادلة.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=95836





