الضفة الغربية.. حيث تحوّل الصبر إلى عملة وطنية منزوعة القيمة

رام الله – الشاهد| كتب م.غسان جابر : دعونا نسمي الأشياء بأسمائها، بلا تورية ولا تجميل. في رام الله، لم يعد “الراتب” راتبًا. تقلّص ليصبح مجرّد “نسبة مئوية” تتساقط من ماكينات الصراف الآلي كأنها صدقات موسمية. الحكومة لا تدفع؛ بل تعتذر. بياناتها الرسمية تشبه بطاقات تعزية مكتوبة بلغة بيروقراطية تواسي الموظف على موت كرامته الاقتصادية بشيك مؤجل.
في الضفة الغربية، صار الموظف الفلسطيني موظفًا بدوام كامل في الصبر.
المعلمون، الأطباء، والموظفون — أولئك الذين يفترض أنهم عمود المجتمع — تحولوا إلى ممثلين في مسرحية عبثية طويلة. يؤدّون أدوارهم أمام الطلبة والمرضى والملفات، بينما تدور في رؤوسهم معادلة مستحيلة:
كيف يحوّلون خمسين بالمئة من الراتب إلى مئة بالمئة من احتياجات الحياة؟
في أحد مقاهي الخليل، دار هذا الحوار الساخر:
“أين تعمل؟”
“في الحكومة.”
“آه، فهمت… إذًا أنت متطوّع!”
ضحك الجميع، لكن الضحك كان أقرب إلى البكاء. إنه الصبر الفلسطيني وقد تحوّل إلى سلعة استهلاكية رخيصة تتغنّى بها البيانات الرسمية وتبيعها الشعارات السياسية.
لعبة اللوم المفضّلة للجميع
تلعب السلطة الفلسطينية لعبتها المفضلة: “احمل الاحتلال فوق كتفك اليسار، والفساد فوق كتفك اليمين، وانظر إلى الناس بعينين بريئتين.”
نعم، الاحتلال الإسرائيلي هو السبب الأول في خنق الاقتصاد، هذا لا جدال فيه. لكنه ليس من يوقّع على شيكات الرواتب المتقطعة، ولا من يعيّن الأقارب في المناصب العليا بسيارات فارهة ورواتب منتفخة، بينما المعلم يركب حافلة قديمة ويقترض لشراء الدواء.
الحقيقة المرة أن الاحتلال والفساد شريكان في جريمة واحدة: أحدهما يسرق الأرض، والآخر يسرق الروح.
يعملان بتناغم غريب — الاحتلال يصنع الأزمة، والفساد يحوّلها إلى حالة دائمة، وكأنّ الوطن مشروع مستمر لإدارة العجز لا لإنهائه.
الخبز… رفاهية غير مبرمجة
في بلد يُفترض أن يكون الخبز أبسط مظاهر الحياة، أصبح الرغيف في الضفة الغربية الأغلى سعرًا في العالم. لم يرَ الناس بعد مشروع صوامع القمح الوطنية الذي وُعدوا به منذ سنوات، ولا أحد يعرف أين تبخّر.
الخبز هنا ليس أزمة طحين، بل أزمة ضمير. المواطن يشتري رغيفه كما يشتري وقود سيارته — بتقسيط الوجع، لا بثمن العدل.
ولأن الحكومة لا تمتلك سوى الخطابات، ترفع شعار “الثبات على الموقف”، بينما المواطن لا يثبت إلا على أسعار تتسلق كل أسبوع.
لم يعد الناس بحاجة إلى خطب عن الصمود، بل إلى خطة عن كيف ندفع فاتورة الكهرباء والماء. لم يعودوا بحاجة إلى أبطال خارقين، بل إلى إدارة تعرف معنى الشفافية، ومحاسبة لا تخاف الضوء.
دولة الخطابات في مواجهة دولة الواقع
الفلسطيني اليوم لا يعيش في دولة واحدة. إنه يعيش في دولتين متوازيتين لا تلتقيان:
دولة السلطة: تتحدث لغة المؤتمرات، البيانات، والمشاريع الافتراضية التي تُعلن ولا تُنجز.
دولة الواقع: حيث يقف المواطن في المتجر ليجد أن سعر الخيار ارتفع مرة أخرى، وأن راتبه المتأخر لا يكفي حتى لشراء الأمل.
في هذا التناقض يعيش الفلسطيني يومه، متأرجحًا بين شعارات كبرى وحاجات صغيرة لم تعد تُلبّى.
فمنذ متى صار الصمود بديلاً عن الكفاءة؟ ومنذ متى صار الصبر سياسة مالية؟
خطة إنقاذ لا خطاب إنقاذ
ما نحتاجه ليس مؤتمرًا جديدًا، بل مجلسًا اقتصاديًا وطنيًا حقيقيًا.
يضم النقابات، والقطاع الخاص، والجامعات، والخبراء، بعيدًا عن الوجوه المكررة التي أدمنت الفشل.
المطلوب ليس مزيدًا من الشرح عن الأزمة، بل خطوات لإنهائها:
دعم الإنتاج المحلي بدل الاستيراد.
استثمار حقيقي في الزراعة والصناعة بدل التسوّل السياسي.
كشف حقيقي للموازنات بدل لغة “السرّية الوطنية” التي تخفي العجز لا تعالجه.
الثقة لا تُستورد، ولا تُقترض من المانحين.
الثقة تُبنى بالعدل والمحاسبة، لا بالشعارات.
نقول: الصبر… سياسة فاشلة
السؤال الحقيقي اليوم ليس كم صمودًا بقي عند الفلسطيني، فالصبر كثير، لكنه ليس بلا نهاية.
السؤال: من يجرؤ على أن يقول
ئ إن الصبر لم يعد فضيلة، بل صار سياسة اقتصادية فاشلة تُدار بها حياة الناس؟.
الفلسطيني محشور بين مطرقة احتلال لا يرحم وسندان إدارة لا تستمع.
ومع ذلك، يزرع وردة فوق جدار الفصل، ويغنّي للحياة رغم الجوع.
لكنه اليوم لا يطلب إعجابًا على منشور عن الصمود…
بل يطلب راتبًا يعيش به، لا يموت بسببه.
الرابط المختصر https://shahed.cc/?p=96386





